الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الثالث ألا : يكتم في المقدار شيئا ، وذلك بتعديل الميزان ، والاحتياط فيه ، وفي الكيل فينبغي أن يكيل كما يكتال قال الله تعالى ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ولا يخلص من هذا إلا بأن يرجع إذا أعطى وينقص إذا أخذ إذ العدل الحقيقي قلما يتصور فليستظهر بظهور الزيادة والنقصان فإن من استقصى حقه بكماله يوشك أن يتعداه .

وكان بعضهم يقول : لا أشتري الويل من الله بحبة ، فكان إذا أخذ نقص نصف حبة ، وإذا أعطى زاد حبة، وكان يقول : ويل لمن باع بحبة جنة عرضها السماوات والأرض وما أخسر من باع طوبى بويل .

وإنما بالغوا في الاحتراز من هذا وشبهه ; لأنها مظالم ، لا يمكن التوبة منها ; إذ لا يعرف أصحاب الحبات حتى يجمعهم ويؤدى حقوقهم ولذلك لما اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، قال للوزان لما كان يزن ثمنه : زن وأرجح .

ونظر فضيل إلى ابنه وهو يغسل دينارا ، يريد أن يصرفه ، ويزيل تكحيله وينقيه ، ; حتى لا يزيد وزنه بسبب ذلك فقال : يا بني ، فعلك هذا أفضل من حجتين ، وعشرين عمرة .

وقال بعض السلف عجبت : للتاجر والبائع ، كيف ينجو يزن ويحلف بالنهار وينام بالليل .

وقال سليمان عليه السلام لابنه يا بني ، كما تدخل الحبة بين الحجرين ، كذلك تدخل الخطيئة بين المتبايعين .

وصلى : بعض الصالحين على مخنث فقيل له : إنه كان فاسقا ، فسكت ، فأعيد عليه ، فقال : كأنك قلت لي كان صاحب ميزانين يعطي ، بأحدهما ، ويأخذ بالأخر أشار به إلى أن فسقه مظلمة بينه وبين الله تعالى وهذا من مظالم العباد ، والمسامحة والعفو فيه أبعد والتشديد في أمر الميزان عظيم والخلاص ، منه يحصل بحبة ونصف حبة .

وفي قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لا تطغوا في الميزان ، وأقيموا الوزن باللسان ولا تخسروا الميزان أي : لسان الميزان فإن النقصان والرجحان يظهر بميله

التالي السابق


(الثالث: أن لا يكتم المعيار، وذلك بتعديل الميزان، والاحتياط فيه، وفي الكيل) .

اعلم أن المعيار مفعال من العيار، كسحاب، وعيار الشيء: ما جعل نظاما له، ويقال: عايرت الميزان والمكيال معايرة وعيارا، امتحنته لمعرفة صحته. وقال ابن السكيت: عايرت بين المكيالين: امتحنتهما لمعرفة تساويهما (فينبغي أن يكيل) لغيره (كما يكتال) لنفسه، سواء بسواء (قال الله تعالى في كتابه) العزيز: ( ويل ) اسم واد في جهنم، أعاذنا الله منها ( للمطففين ) قال البيضاوي: التطفيف: البخس في الكيل والوزن; لأن ما يبخس طفيف أو حقير ( الذين إذا اكتالوا على الناس ) أي: من الناس حقوقهم ( يستوفون ) أي: يأخذونها وافية، وإنما أبدل من بعلى; للدلالة على أن اكتيالهم لما لهم على الناس اكتيال بتحامل ( وإذا كالوهم ) أي: للناس ( أو وزنوهم ) أي: لهم ( يخسرون ) فحذف الجار، [ ص: 490 ] وأوصل الفعل، كقوله: *ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا* بمعنى: جنيت لك، أو كالوا مكيلهم، بحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، ولا يحسن جعل المنفصل تأكيدا لمتصل; فإنه يخرج الكلام عن مقابلة ما قبله; إذ المقصود بيان اختلاف حالهم في الأخذ والدفع، لا في المباشرة وعدمها، ويستدعي إثبات الألف بعد الواو كما هو خط المصحف في نظائره .

(ولا يخلص من هذا إلا إذا أرجح) أي: زاد (إذا أعطى) ولو حبة (وينقص إذا أخذ) ولو حبة (إذ العدل الحقيقي) الذي هو جار مجرى البيطار من الدائرة (قلما يتصور) بين العاملين (فليستظهره بظهور الزيادة والنقصان) والاستظهار والاحتياط (فإن من استقصى حقه بكماله يوشك أن يتعداه) أي: يتجاوزه (وكان بعضهم يقول: لا أشتري الويل من الله عز وجل بحبة، فكان إذا أخذ) لنفسه (نقص حبة، وإذا أعطى زاد غيره حبة) يعني: لقوله تعالى: ويل للمطففين يعني: الذين رضوا بالتطفيف، الحبة والحبتان، هكذا هو في القوت .

(وكان يقول: ويل لمن يبيع بحبة جنة عرضها السموات والأرض) لجهلهم بأمر الله تعالى، وقلة يقينهم بالآخرة .

(وما أخس من باع طوبى) شجرة في الجنة (بويل) واد في جهنم، ولفظ القوت: اشتروا الويل الطويل بطوبى .

(وإنما بالغوا في الاحتراز من هذا وشبهه; لأنها مظالم، لا يمكن التوبة منها; إذ لا يعرف أصحاب الحبات حتى يجمعوا وتؤدى حقوقهم) .

ولفظ القوت: ويقال إن هذه مظالم لا ترد أبدا، ولا تصح التوبة منها; لتعذر معرفة أصحابها; (ولذلك لما اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا. كذا في القوت، ويقال: إنه سراويل، قال للوزان لما كان يزن ثمنه: زن وأرجح) بفتح الهمزة، وكسر الجيم، أي: أعطه راجحا، والرجحان: الثقل والميل، اعتبر في الزيادة، وهذا قاله وقد اشترى سراويل وثم رجل يزن بالأجر، أي: في السوق، والأمر محتمل للإباحة، وفي الأوسط للطبراني، والمسند لأبي يعلى: أن الثمن كان أربعة دراهم، وفيه: صحة هبة المجهول المشاع; لأن الرجحان هبة، وهو غير معلوم القدر .

قال العراقي: رواه أصحاب السنن، والحاكم من حديث سويد بن قيس، قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، اهـ .

قلت: وكذلك رواه الطيالسي، وأحمد، والبخاري في تاريخه، والدارمي، والطبراني في الكبير، وابن حبان، والعقيلي عن سويد بن قيس العبدي بن مزاحم، صحابي، مشهور، نزل الكوفة، قال: جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر، فأتينا به مكة، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن بمنى، فاشترى منا سراويل، وفي رواية: فساومنا سراويل، فبعناه منه، فوزن ثمنه، وثم وزان يزن بالأجر، فقال: يا وزان، زن وأرجح.

ورواه الطبراني في الكبير أيضا، من حديث مخرمة العبدي، وقال الحافظ في الإصابة: سويد بن قيس العبدي، صحابي، روى عنه سماك بن حرب: أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من رجل سراويل. أخرجه أصحاب السنن، واختلف فيه على سماك، ففيه اضطراب، قال: وفي سنده المسيب بن واضح، اهـ .

وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، فلم يصب، وقد رد عليه السيوطي، وغيره .

(ونظر فضيل) بن عياض، رحمة الله عليه، تقدمت ترجمته (إلى ابنه) علي، وكان شديد الورع، والاحتياط، روى عن ابن أبي رواد، وجماعة، وعنه أبوه، وجماعة، ومات قبل أبيه، روى له النسائي (يغسل دينارا، يريد يصرفه، ويزيل تكحيله، وينقبه; حتى لا يزيد وزنه بسبب ذلك) . ولفظ القوت: وهو يغسل كحلا من دينار، أراد أن يصرفه، فجعل ينقبه، ويغسله من تكحيله (فقال: يا بني، فعلك هذا أفضل من حجتين، وعشرين عمرة) . نقله صاحب القوت، وأورده أبو نعيم في الحلية .

(وقال بعض السلف: عجبا للتاجر، و) عجبا (للبائع، كيف ينجو) ؟ أي: كيف يخلص من الوبال؟ (يزن) أي: فلا يعدل في وزنه (ويحلف بالنهار) على سلعته (وينام بالليل) . نقله صاحب القوت .

(وقال سليمان) بن داود (عليه) وعلى أبيه (السلام لابنه) رحيم: (يا بني، كما تدخل الحبة بين الحجرين، كذلك تدخل الخطيئة بين المتبايعين) . أورده صاحب القوت .

(وحديث: إن بعض السلف صلى على مخنث) قد كان يجمع بين النساء والرجال، اهـ. وفي المصباح: خنث خنثا فهو خنيث، من باب تعب، إذا كان فيه لين وتكسر، وزاد بعضهم: ولا يشتهي النساء، ويعدى بالتضعيف، فيقال: خنثه غيره إذا جعله كذلك، واسم الفاعل: مخنث بالكسر، واسم المفعول بالفتح. [ ص: 491 ] وقال بعض الأئمة: خنث الرجل كلامه، بالتثقيل، إذا شبهه بكلام النساء لينا، ورخاوة، فالرجل مخنث بالكسر (فقيل له: إنه كان فاسقا، فسكت، فأعيد عليه، فقال: كأنك قلت لي كان صاحب ميزانين، يعطى بأحدهما، ويأخذ بالآخر) . ولفظ القوت: فأعاد عليه القائل، فقال: مه، كأنك قلت (أشار به إلى أن فسقه مظلمة بينه وبين الله تعالى) وحقوق الله تعالى مبنية على المسامحة (وهذا من مظالم العباد، والمسامحة والعفو فيه أبعد) ; لأنها مبنية على المشاحة .

(والتشديد في أمر الميزان عظيم، والحاصل منه يحصل بحبة ونصف حبة) . ولفظ القوت: هذا على التغليظ والوعظ، أراد أن التطفيف مظالم بين الخلق، وأن الفسق ظلم العبد لنفسه، وبين مظالم العباد إلى ظلم العبد لنفسه بون كبير، من قبل أن الخلق فقراء، جهلاء، لئام، فيستوفي لهم حقوقهم; لحاجتهم إليها، والله تبارك وتعالى عالم، كريم، غني، فيسمح بحقه .

(وفي قراءة عبد الله بن مسعود) -رضي الله عنه- (لا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن باللسان ولا تخسروا الميزان) والقراءة المشهورة، بالقسط بدل باللسان (أي: لسان الميزان) وكل ميزان له لسان، وكفتان (فإن النقصان والرجحان يظهر بميله) . ولفظ القوت: ولا ينبغي للمشتري أن يسأل البائع الرجحان; لأن الله تعالى قال: وأقيموا الوزن بالقسط يعني: العدل، وهو استواء اللسان في البكرة، لا مائلا إلى إحدى الكفتين، وفي قراءة عبد الله: وأقيموا الوزن باللسان، فهذا مفسر في هذا الحرف .




الخدمات العلمية