الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الثالث : أن يكون المسلم فيه مما يمكن تعريف أوصافه كالحبوب ، والحيوانات ، والمعادن ، والقطن ، والصوف والإبريسم ، والألبان ، واللحوم ، ومتاع العطارين ، وأشباهها

التالي السابق


(الثالث: أن يكون المسلم فيه مما يمكن تعريف أوصافه) أي: فلا يصح السلم فيما لا يضبط أوصافه، أو تضبط وأهمل بعض ما يجب ذكره; لأن البيع لا يحتمل جهالة المعقود عليه وهو عين، فلأن لا يحتملها السلم وهو دين كان أولى .

ولتعذر الضبط أسباب، منها: الاختلاط، والمختلطات أربعة أنواع; لأن الاختلاط إما أن يقع بالاختيار، أو خلقة، والأول إما أن يتفق، وجميع أخلاطها مقصود، أو يتفق والمقصود واحد، والأول إما أن يكون بحيث يتعذر ضبط أخلاطه، أو بحيث لا يتعذر، وستأتي الإشارة إلى كل ذلك، فما يمكن ضبط أوصافه (كالحبوب، والحيوانات، والمعادن، والقطن، والصوف، والبرسيم، والألبان، واللحوم، ومتاع العطارين، وأشباهها) مما يمكن ضبط وصفه، وتعريفه النافي لجهالته .

وفي الحيوانات واللحوم خلاف لأبي حنيفة، وممن قال بجواز السلم في الحيوانات وفاقا للشافعي، مالك، وأحمد، واحتجوا بما روي عن ابن عمرو، أنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أشتري بعيرا له ببعيرين إلى أجل. وعن علي رضي الله عنه، أنه باع بعيرا له بعشرين بعيرا إلى أجل. وعن ابن عمر، أنه اشترى راحلة بأربعة أبعرة، يوفيها صاحبها بالربذة.

واحتج أبو حنيفة بما روي مرفوعا: نهي عن السلم في الحيوان; ولأنه تتفاوت آحاده تفاوتا فاحشا، بحيث لا يمكن ضبطه، وما روي عن ابن عمرو: كان قبل نزول آية الربا; لأن الجنس بانفراده يحرم النساء، أو كان ذلك في دار الحرب; إذ لا يجري الربا بين المسلم والحربي في دار الحرب، ويدخل فيه جميع أنواع الحيوانات، حتى العصافير; لأن النص لم يفصل .

والسلم في لحم الحيوان جائز، خلافا لأبي حنيفة، ووافق الشافعي أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وجحتهم: أنه يمكن ضبط صفاته، فأشبه الثمار، ولأبي حنيفة: أن اللحم يختلف باختلاف صفته، من سمن، أو هزال، ويختلف باختلاف فصول السنة، فما يعد سمينا في الشتاء يعد مهزولا في الصيف; ولأنه يتضمن عظاما غير معلومة، وتجري فيه المماكسة، فالمشتري يأمره بالنزع، والبائع يدسه فيه، وهذا النوع من الجهالة والمنازعة لا ترتفع ببيان الموضع، وذكر الوزن، فصار كالسلم في الحيوان، بخلاف النوى في الثمار، أو العظم في الألية، فإنه معلوم; ولهذا لا يجري فيه المماكسة .

وفي مخلوع العظم يجوز على الوجه الأول، وهو الأصح; لأن الحكم إن علل بعلتين لا ينبغي الحكم بانتفاء أحدهما، وقيل: خلاف بينهم، فجواب أبي حنيفة فيما إذا أطلق المسلم في اللحم، وهما يجوزانه فيه، وجوابهما فيما إذا بين موضعا منه معلوما، وهو يجوزه فيه، والأصح: أن الخلاف فيه ثابت .



(فصل)

وأما السلم في رءوس الحيوانات المأكولة ففيه قولان: أحدهما: الجواز، وبه قال مالك، وأحمد، [ ص: 453 ] كالسلم في جملة الحيوانات، وكالسلم في لحم الفخذ، وسائر الأعضاء، وأظهرهما: المنع، وبه قال أبو حنيفة، ووافقه صاحباه، ويروى عنهما مثل قول الجماعة; لاشتمالها على أبعاض مختلفة، كالمناخر، والمشافر، وغيرهما، وتعذر ضبطها، ويخالف السلم، فإن لحوم سائر الأعضاء أكثر من عظمها، والرأس على العكس، والأكارع كالرأس، ورأي المصنف الجواز فيها أصح; لأنها أقرب إلى الضبط، لكن الجمهور على الأول .

وعن القاضي الرمز إلى القطع بالمنع فيها، فإن قلنا بالجواز فيها فذاك بشروط، منها: أن تكون منقاة عن الصوف والشعر، وأما السلم فيها من غير تنقية فلا يجوز; لستر المقصود بما ليس بمقصود. الثاني: أن يوزن، وأما بالعدد فلا; لاختلافها في الصغر والكبر. والثالث: أن تكون نيئة، فأما المطبوخة والمشوية فلا يسلم فيها بحال .




الخدمات العلمية