الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فالعباد المواظبون على ذكر الله بالقلب واللسان الذين يصدقون بما جاءت به الرسل بالإيمان التقليدي ليس معهم من محاسن صفات الله تعالى إلا أمور جميلة اعتقدوها بتصديق عن وصفها لهم والعارفون هم الذين شاهدوا ذلك الجلال والجمال بعين البصيرة الباطنة التي هي أقوى من البصر الظاهر لأن أحدا لم يحط بكنه جلاله وجماله فإن ذلك غير مقدور لأحد من الخلق ولكن كل واحد شاهد بقدر ما رفع له من الحجاب ، ولا نهاية لجمال حضرة الربوبية ، ولا لحجبها ، وإنما عدد حجبها التي استحقت أن تسمى نورا وكاد يظن الواصل إليها أنه قد تم وصوله إلى الأصل سبعون حجابا .

قال صلى الله عليه وسلم : " إن لله سبعين حجابا من نور ، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك بصره "

التالي السابق


( والعباد المواظبون على ذكر الله -عز وجل- بالقلب واللسان الذين صدقوا بما جاءت به الرسل) عليهم السلام ( بالإيمان التقليدي) صرفا ( ليس معهم من محاسن صفات الله -عز وجل- إلا أمور جملية) بضم الجيم وسكون الميم، أي: إجمالية ( اعتقدوها بتصديق من وصفها لهم) ولم يجاوزوا ذلك ( والعارفون المختصون بمعرفة الله ومعرفة ملكوته) وحسن معاملته ( هم الذين شاهدوا ذلك الجلال) أي: احتجاب الحق عنا بعزته ( والجمال) أي: تجليه لنا برحمته ( بعين البصيرة الباطنة التي هي أقوى من البصر الظاهر) اعلم أن البصيرة كما تقدم قوة للقلب المنور بنور اليقين، ترى حقائق الأشياء وظاهرها، وإنما كانت أقوى؛ لأن نور البصر موسوم بأنواع من النقصان، فإنه يبصر غيره ولا يبصر نفسه، ولا يبصر ما بعد منه ولا ما قرب، ولا يبصر ما هو وراء حجاب، ويبصر من الأشياء ظاهرها دون باطنها، ويبصر من الموجودات بعضها دون كلها، ويبصر أشياء متناهية ولا يبصر ما لا نهاية له، ويغلط كثيرا في إبصاره، فيرى الكبير صغيرا، أو يرى البعيد والساكن متحركا، والمتحرك ساكنا، فهذه سبع نقائص لا تفارق العين الظاهرة، ولكل من هذه تفاصيل أوردها المصنف في مشكاة الأنوار. وأنواع غلط البصر كثيرة، والبصيرة منزهة عنها .

فإن قلت: نرى أصحاب البصائر يغلطون كثيرا في نظرهم فاعلم أن فيهم خيالات وأوهاما واعتقادات يظنون أن أحكامها أحكام العقل، فالغلط منسوب إليها، فأما العقل إذا تجرد عن غشاوة الوهم والخيال لم يتصور أن يغلط، بل يرى الأشياء على ما هي عليه .

( لا لأن أحدا أحاط بكنه جلاله وجماله فإن ذلك غير مقدور لأحد من الخلق) إذ نهاية معرفة العارفين عجزهم عن المعرفة، ومعرفتهم بالحقيقة هي أنهم لا يعرفونه، وأنه يستحيل أن يعرف الله المعرفة الحقيقية المحيطة بكنه صفات الربوبية إلا الله تعالى، وهو المشار إليه في الخير: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" أي: لا أحيط بمحامدك وصفات إلهيتك، وإنما أنت المحيط بها وحدك، فلا يتجرأ أحد من الخلق لنيل ذلك وإدراكه إلا ردته سبحات الجلال إلى الحيرة، ولا يشرئب أحد لملاحظته إلا غطى الدهش طرفه، وأما اتساع المعرفة إنما يكون في معرفة أسمائه وصفاته، وإليه أشار المصنف بقوله:

( ولكن كل واحد شاهد بقدر ما رفع له من الحجاب، ولا نهاية لجمال حضرة الربوبية، ولا لحجبها، وإنما عدد حجبها التي استحقت أن تسمى نورا وكاد يظن الواصل إليها أنه قد تم وصوله إلى الأصل سبعون) حجابا ( قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن لله سبعين حجابا من نور، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل من أدرك بصره") وتقدم للمصنف في قواعد العقائد بلفظ: "ما أدركه بصره" .

وروى أبو الشيخ في كتاب العظمة من حديث أبي هريرة: "بين الله وبين الملائكة الذين حول العرش سبعون حجابا من نور" وسنده ضعيف .

وفيه أيضا من حديث أنس قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لجبريل: هل ترى ربك؟ قال: إني بيني وبينه لسبعين حجابا من نور".

وفي المعجم الكبير للطبراني من حديث سهل بن سعد: "دون الله تعالى سبعون ألف حجاب من نور وظلمة" ولحديث أبي موسى: "حجابه لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".

ولابن ماجه: "كل شيء أدركه بصره" قاله العراقي، وتقدم ذلك .

قلت: وحديث سهل بن سعد الذي أورده في المعجم الكبير قد رواه أيضا أبو يعلى، والعقيلي، كلهم عن ابن عمر وسهل بن سعد معا، وللحديث بقية بعد قوله: "وظلمة": "فما من نفس تسمع شيئا من حسن تلك الحجب إلا زهقت" .

وقال المصنف في الفصل الثالث من مشكاة الأنوار: اعلم أن الله -عز وجل- متجل في ذاته بذاته لذاته، ويكون الحجاب في الإضافة إلى محجوب لا محالة، وأن المحجوبين من الخلق ثلاثة أقسام: منهم من يحجب بمجرد الظلمة، ومنهم من يحجب بالنور المحض، ومنهم من يحجب بنور مقرون بظلمة، وأصناف هذه الأقسام كثيرة لا تحصى، وذكر العدد في الحديث المذكور للتكثير لا للتحديد، وقد تجري العادة بذكر أعداد لا يراد بها الحصر، والله أعلم بذلك .



ثم ذكر القسمين وما فيهما من الأقسام والأصناف والفرق والطوائف، والقسم الثالث هم المحجوبون بمحض الأنوار [ ص: 138 ] أصناف لا يحصون، لكن أشير إلى ثلاثة أصناف منهم:

الأول: طائفة عرفت معاني الصفات تحقيقا، وأدركوا أن إطلاق اسم الكلام والإرادة والقدوة والعلم وغيرها ليس كإطلاقها على البشر، فتحاشوا عن تعريفه بهذه الصفات، وعرفوه بالإضافة إلى المخلوقات .

الثاني: صنف ترقوا من هؤلاء من حيث ظهر لهم أن في السموات كثرة، وأن محرك كل سماء خاصة موجود آخر يسمى فلكا، وفيهم كثرة، وإنما نسبتهم إلى الأنوار الإلهية نسبة الكواكب في الأنوار المحسومة، ثم لاح لهم أن هذه السموات في ضمن فلك آخر يتحرك الجميع بحركته في اليوم والليلة مرة، والرب هو المحرك للجرم الأقصى المنطوي على الأفلاك كلها؛ إذ الكثرة منفية عنه .

الثالث: صنف ترقوا من هؤلاء، وقالوا: إن تحريك الأجسام بطريق المباشرة ينبغي أن يكون خدمة لرب العالمين، وعبادة له وطاعة، من عبد من عباده يسمى ملكا، نسبته إلى الأنوار الإلهية المحضة نسبة القمر في الأنوار المحسوسة، فزعموا أن الرب هو المطاع من جهة هذا المحرك، ويكون الرب تعالى محركا بطريق الأمر لا بطريق المباشرة .

فهؤلاء أصناف، كلهم محجوبون بالأنوار المحضة، وإنما الواصلون صنف رابع، تجلى لهم أيضا أن هذا المطاع موصوف بصفة لا تنافي الوحدانية المحضة والكمال البالغ، وأن نسبة هذا المطاع إلى الموجودات الحسية نسبة الشمس في الأنوار المحسوسة منه، فتوجهوا من الذي يحرك السموات ومن الذي أمر بتحريكها إلى الذي فطر السموات وفطر الأمر بتحريكها، فوصلوا إلى موجود منزه عن كل ما أدركه بصر الناظرين وبصيرتهم؛ إذ وجوده من قبله، فأحرقت سبحات وجه الأول الأعلى جميع ما أدركه الناظرون وبصيرتهم؛ إذ وجوده مقدسا منزها عن جميع ما وصفناه مما قبل .

ثم هؤلاء انقسموا، فمنهم من أحرق منه جميع ما أدركه بصره، وانمحق وتلاشى، لكن بقي هو ملاحظا للجمال والقدس، وملاحظا ذاته في جماله الذي ناله بالوصول إلى الحضرة الإلهية، وانمحقت منه المبصرات دون المبصر .

وجاوز هؤلاء طائفة منهم خواص الخواص، فأحرقتهم سبحات وجهه، وغشيهم سلطان الجلال، وتلاشوا في ذاته، ولم يبق لهم لحاظ في أنفسهم بفنائهم عن أنفسهم، ولم يبق إلا الواحد الحق، فهذه نهاية الواصلين .

ومنهم من لم يندرج في الترقي والعروج، على التفصيل الذي ذكرناه، ولم يطل عليه العروج، فسبقوا من أول وهلة إلى معرفة القدس، وتنزيه الربوبية عن كل ما يجب تنزيهه عنهم، فغلب عليهم أولا ما غلب على الآخرين آخرا، وهجم عليهم التجلي دفعة، فأحرقت سبحات وجهه جميع ما يمكن أن يدركه بصر حي أو بصيرة عقلية. والله أعلم .




الخدمات العلمية