الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ذكر تلبيس إبليس على أصحاب الحديث

من ذلك أن قوما استغرقوا أعمارهم في سماع الحديث والرحلة فيه وجمع الطرق الكثيرة وطلب الأسانيد العالية والمتون الغريبة وهؤلاء على قسمين قسم قصدوا حفظ الشرع بمعرفة صحيح الحديث من سقيمه وهم مشكورون على هذا القصد إلا أن إبليس يلبس عليهم بأن يشغلهم بهذا عما هو فرض عين من معرفة ما يجب عليهم والاجتهاد في أداء اللازم والتفقه في الحديث (فإن قال قائل) فقد فعل هذا خلق كثير من السلف كيحيى بن معين ، وابن المديني ، والبخاري ، ومسلم فالجواب أن أولئك جمعوا بين معرفة المهم من أمور الدين والفقه فيه وبين ما طلبوا من الحديث وأعانهم على ذلك قصر الإسناد وقلة الحديث فاتسع زمانهم للأمرين، فأما في هذا الزمان فإن طرق الحديث طالت والتصانيف فيه اتسعت وما في هذا الكتاب في تلك الكتب، وإنما الطرق تختلف فقل أن يمكن أحدا أن يجمع بين الأمرين فترى المحدث يكتب ويسمع خمسين سنة ويجمع الكتب ولا يدري ما فيها ولو وقعت له حادثة في صلاته لافتقر إلى بعض أحداث المتفقهة [ ص: 112 ] الذين يترددون إليه لسماع الحديث منه وبهؤلاء تمكن الطاعنون على المحدثين فقالوا زوامل أسفار لا يدرون ما معهم. فإن أفلح أحدهم ونظر في حديثه فربما عمل بحديث منسوخ وربما فهم من الحديث ما يفهم العامي الجاهل وعمل بذلك وليس بالمراد من الحديث كما روينا أن بعض المحدثين روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يسقي الرجل ماءه زرع غيره فقال جماعة ممن حضر قد كنا إذا فضل عنا ماء في بساتيننا سرحناه إلى جيراننا ونحن نستغفر الله فما فهم القارئ ولا السامع ولا شعروا أن المراد وطء الحبالى من السبايا. قال الخطابي: وكان بعض مشايخنا يروي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلق قبل الصلاة يوم الجمعة بإسكان اللام قال وأخبرني أنه بقي أربعين سنة لا يحلق رأسه قبل الصلاة قال فقلت له إنما هو الحلق جمع حلقة وإنما كره الاجتماع قبل الصلاة للعلم والمذاكرة وأمر أن يشتغل بالصلاة وينصت للخطبة. فقال قد فرجت علي وكان من الصالحين. وقد كان ابن صاعد كبير القدر في المحدثين لكنه لما قلت مخالطته للفقهاء كان لا يفهم جواب فتوى حتى أنه قد أخبرنا أبو منصور البوار ، نا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال سمعت اليرقاني يقول: قال أبو بكر الأبهري الفقيه قال كنت عند يحيى بن محمد بن صاعد فجاءته امرأة فقالت: أيها الشيخ ما تقول في بئر سقطت فيه دجاجة فماتت فهل الماء طاهر أو نجس؟ فقال يحيى ويحك كيف سقطت الدجاجة إلى البئر. قالت لم تكن البئر مغطاة. فقال يحيى ألا غطيتها حتى لا يقع فيها شيء. قال الأبهري فقلت يا هذه إن كان الماء تغير فهو نجس وإلا فهو طاهر.

قال المصنف: وكان ابن شاهين قد صنف في الحديث مصنفات كثيرة أقلها جزء وأكثرها التفسير وهو ألف جزء وما كان يعرف من الفقه شيئا وقد كان فيهم من يقدم على الفتوى بالخطأ لئلا يرى بعين الجهل فكان فيهم من يصير بما يفتي به ضحكة فسئل بعضهم عن مسألة من الفرائض فكتب في الفتوى تقسم على فرائض الله سبحانه وتعالى.

وأنبأنا محمد بن أبي منصور ، نا أحمد بن الحسين بن حبرون ، نا أحمد بن محمد العتيقي ، نا أبو عمر بن حياة ، نا سليمان بن إسحاق الحلاب ، ثنا إبراهيم الحربي قال [ ص: 113 ] بلغني أن امرأة جاءت إلى علي بن داود وهو يحدث وبين يديه مقدار ألف نفس فقالت له: حلفت بصدقة إزاري فقال لها بكم اشتريتيه قالت باثنين وعشرين درهما قال اذهبي فصومي اثنين وعشرين يوما فلما مرت جعل يقول آه آه غلطنا والله أمرناها بكفارة الظهار.

قال المصنف: قلت فانظروا إلى هاتين الفضيحتين فضيحة الجهل وفضيحة الإقدام على الفتوى بمثل هذا التخليط واعلم أن عموم المحدثين حملوا ظاهر ما تعلق من صفات الباري سبحانه على مقتضى الحس فشبهوا لأنهم لم يخالطوا الفقهاء فيعرفوا حمل المتشابه على مقتضى الحكم وقد رأينا في زماننا من يجمع الكتب منهم ويكثر السماع ولا يفهم ما حصل ومنهم من لا يحفظ القرآن ولا يعرف أركان الصلاة فتشاغل هؤلاء على زعمهم بفروض الكفاية عن فروض الأعيان وإيثار ما ليس بمهم على المهم من تلبيس إبليس.

القسم الثاني: قوم أكثروا سماع الحديث ولم يكن مقصودهم صحيحا ولا أرادوا معرفة الصحيح من غيره بجمع الطرق وإنما كان مرادهم العوالي والغرائب فطافوا البلدان ليقول أحدهم لقيت فلانا ولي من الأسانيد ما ليس لغيري وعندي أحاديث ليست عند غيري وقد كان دخل إلينا إلى بغداد بعض طلبة الحديث وكان يأخذ الشيخ فيقعده في الرقة وهي البستان الذي على شاطئ دجلة فيقرأ عليه ويقول في مجموعاته حدثني فلان وفلان بالرقة ويوهم الناس أنها البلدة التي بناحية الشام ليظنوا أنه قد تعب في الأسفار لطلب الحديث وكان يقعد الشيخ بين نهر عيسى والفرات ويقول حدثني فلان من وراء النهر يوهم أنه قد عبر خراسان في طلب الحديث وكان يقول حدثني فلان في رحلتي الثانية والثالثة ليعلم الناس قدر تعبه في طلب الحديث فما بورك له ومات في زمان الطلب.

قال المصنف: وهذا كله من الإخلاص بمعزل وإنما مقصودهم الرئاسة والمباهاة ولذلك يتبعون شاذ الحديث وغريبه وربما ظفر أحدهم بجزء فيه سماع أخيه المسلم فأخفاه ليتفرد هو بالرواية وقد يموت هو ولا يرويه فيفوت الشخصين وربما رحل أحدهم إلى شيخ أول اسمه قاف أو كاف ليكتب ذلك في مشيخته فحسب.

[ ص: 114 ] ومن تلبيس إبليس على أصحاب الحديث قدح بعضهم في بعض طلبا للتشفي ويخرجون ذلك مخرج الجرح والتعديل الذي استعمله قدماء هذه الأمة للذب عن الشرع والله أعلم بالمقاصد ودليل مقصد خبث هؤلاء سكوتهم عمن أخذوا عنه وما كان القدماء هكذا فقد كان علي بن المديني يحدث عن أبيه وكان ضعيفا ثم يقول وفي حديث الشيخ ما فيه. أخبرنا أبو بكر بن حبيب العامري ، نا أبو سعيد بن أبي صادق ، نا أبو عبد الله بن باكويه ، ثنا بكر أن ابن أحمد الجيلي قال سمعت يوسف بن الحسين يقول سألت حارثا المحاسبي عن الغيبة فقال احذرها فإنها شر مكتسب وما ظنك بشيء يسلبك حسناتك فيرضى به خصماؤك ومن تبغضه في الدنيا كيف ترضى به خصمك يوم القيامة يأخذ من حسناتك أو تأخذ من سيئاته إذ ليس هناك درهم ولا دينار فاحذرها وتعرف منبعها فإن منبع غيبة الهمج والجهال من إشفاء الغيظ والحمية والحسد وسوء الظن وتلك مكشوفة غير خفية وأما غيبة العلماء فمنبعها من خدعة النفس على إبداء النصيحة وتأويل ما لا يصح من الخبر ولو صح ما كان عونا على الغيبة وهو قوله أترغبون عن ذكره اذكروه بما فيه ليحذره الناس ولو كان الخبر محفوظا صحيحا لم يكن فيه إبداء شناعة على أخيك المسلم من غير أن تسأل عنه وإنما إذا جاءك مسترشد فقال أريد أن أزوج كريمتي من فلان فعرفت منه بدعة أو أنه غير مأمون على حرم المسلمين صرفته عنه بأحسن صرف أو يجيئك رجل آخر فيقول لك أريد أن أودع مالي فلانا وليس ذلك الرجل موضعا للأمانة فتصرفه عنه بأحسن الوجوه أو يقول لك رجل أريد أن أصلي خلف فلان أو أجعله إمامي في علم فتصرفه عنه بأحسن الوجوه ولا تشف غيظك من غيبته.

وأما منبع الغيبة من القراء والنساك فمن طريق التعجب يبدي عوار الأخ ثم يتصنع بالدعاء في ظهر الغيب فيتمكن من لحم أخيه المسلم ثم يتزين بالدعاء له، وأما منبع الغيبة من الرؤساء والأساتذة فمن طريق إبداء الرحمة والشفقة حتى يقول مسكين فلان ابتلي بكذا وامتحن بكذا نعوذ بالله من الخذلان فيتصنع بإبداء الرحمة والشفقة على أخيه ثم يتصنع بالدعاء له عند إخوانه ويقول إنما أبديت لكم ذاك لتكثروا دعاءكم له ونعوذ بالله من الغيبة تعريضا أو تصريحا؛ فاتق الغيبة فقد نطق القرآن بكراهتها فقال عز وجل: ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ) [ ص: 115 ] وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أخبار كثيرة.

ومن تلبيس إبليس على علماء المحدثين رواية الحديث الموضوع من غير أن يبينوا أنه موضوع وهذه جناية منهم على الشرع ومقصودهم ترويج أحاديثهم وكثرة رواياتهم وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من روى عني حديثا يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" ومن هذا الفن تدليسهم في الرواية فتارة يقول أحدهم فلان عن فلان أو قال فلان عن فلان يوهم أنه سمع منه المنقطع ولم يسمع وهذا قبيح لأنه يجعل المنقطع في مرتبة المتصل، ومنهم من يروي عن الضعيف والكذاب فينفي اسمه فربما سماه بغير اسمه وربما كناه وربما نسبه إلى جده لئلا يعرف وهذه جناية على الشرع لأنه يثبت حكما بما لا يثبت به، فأما إذا كان المروي عنه ثقة فنسبه إلى جده أو اقتصر على كنيته لئلا يرى أنه قد ردد الرواية عنه أو يكون المروي عنه في مرتبة الراوي فيستحي الراوي من ذكره فهذا على الكراهة والبعد من الصواب قريب بشرط أن يكون المروي عنه ثقة والله الموفق.

التالي السابق


الخدمات العلمية