الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في الخروج عن الأموال والتجرد عنها

كان إبليس يلبس على أوائل الصوفية لصدقهم في الزهد فيريهم عيب المال ويخوفهم من شره فيتجردون من الأموال ويجلسون على بساط الفقر وكانت مقاصدهم صالحة وأفعالهم في ذلك خطأ لقلة العلم، فأما الآن فقد كفي إبليس هذه المؤنة فإن أحدهم إذا كان له مال أنفقه تبذيرا وضياعا والحديث بإسناد عن محمد بن الحسين السليمي قال سمعت أبا نصر الطوسي قال سمعت جماعة من مشايخ الري يقولون: ورث أبو عبد الله المقري من أبيه خمسين ألف دينار سوى الضياع والعقار فخرج عن ذلك كله وأنفقه على الفقراء.

وقد روي مثل هذا عن جماعة كثيرة وهذا الفعل لا ألوم صاحبه إذا كان يرجع إلى كفاية قد ادخرها لنفسه أو إن كانت له صناعة يستغني بها عن الناس أو كان المال عن شبهة فتصدق به، أما إذا أخرج المال الحلال كله ثم احتاج إلى ما في أيدي الناس وأفقر عياله فهو إما أن يتعرض لمنن الإخوان أو لصدقاتهم، أو أن يأخذ من أرباب الظلم والشبهات فهذا هو الفعل المذموم المنهي عنه، ولست أتعجب من المتزهدين الذين فعلوا هذا مع قلة علمهم وإنما العجب من أقوام لهم عقل وعلم وكيف حثوا على هذا وأمروا به مع مصادمته للعقل والشرع. وقد ذكر الحارث المحاسبي في هذا كلاما طويلا وشيده أبو حامد الغزالي ونصره والحارث عندي أعذر من أبي حامد لأن أبا حامد كان أفقه غير أن دخوله في التصوف أوجب عليه نصرة ما دخل فيه.

فمن كلام الحارث المحاسبي في هذا أنه قال أيها المفتون متى زعمت أن جمع المال الحلال أعلى وأفضل من تركه فقد أزريت بمحمد صلى الله عليه وسلم والمرسلين وزعمت [ ص: 171 ] أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم ينصح الأمة إذ نهاهم عن جمع المال وقد علم أن جمعه خير لهم، وزعمت أن الله لم ينظر لعباده حين نهاهم عن جمع المال وقد علم أن جمعه خير لهم، وما ينفعك الاحتجاج بمال الصحابة وابن عوف في القيامة أن لو لم يؤت من الدنيا إلا قوتا قال ولقد بلغني أنه لما توفي عبد الرحمن بن عوف قال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا نخاف على عبد الرحمن فيما ترك. قال كعب سبحان الله وما تخافون على عبد الرحمن كسب طيبا وأنفق طيبا فبلغ ذلك أبا ذر فخرج مغضبا يريد كعبا فمر بلحي بعير فأخذه بيده ثم انطلق يطلب كعبا فقيل لكعب إن أبا ذر طلبك فخرج هاربا حتى دخل على عثمان يستغيث به وأخبره الخبر فأقبل أبو ذر يقتص الأثر في طلب كعب حتى انتهى إلى دار عثمان فلما دخل قام كعب فجلس خلف عثمان هاربا من أبي ذر فقال له أبو ذر هيه يا ابن اليهودية تزعم أنه لا بأس بما ترك عبد الرحمن بن عوف لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: "الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا"، ثم قال يا أبا ذر وأنت تريد الأكثر وأنا أريد الأقل، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يريد هذا وأنت تقول يا ابن اليهودية لا بأس بما ترك عبد الرحمن بن عوف كذبت وكذب من قال بقولك فلم يرد عليه حرفا حتى خرج.

قال الحارث : فهذا عبد الرحمن مع فضله يوقف في عرصة القيامة بسبب مال كسبه من حلال للتعفف ولصنائع المعروف فيمنع من السعي إلى الجنة مع فقراء المهاجرين وصار يحبو في آثارهم حبوا، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم إذا لم يكن عندهم شيء فرحوا وأنت تدخر المال وتجمعه خوفا من الفقر وذلك من سوء الظن بالله وقلة اليقين بضمانه وكفى به دائما وعساك تجمع المال لنعيم الدنيا وزهرتها ولذاتها وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أسف على دنيا فاتته قرب من النار مسيرة سنة" وأنت تأسف على ما فاتك غير مكترث بقربك من عذاب الله عز وجل ويحك هل تجد في دهرك من الحلال كما وجدت الصحابة وأين الحلال فتجمعه ويحك إني لك ناصح أرى لك أنك تقنع بالبلغة ولا تجمع المال لأعمال البر فقد سئل بعض أهل العلم عن الرجل يجمع المال لأعمال البر فقال تركه أبر منه، وبلغنا أن بعض خيار التابعين سئل عن رجلين أحدهما طلب الدنيا حلالا فأصابها فوصل بها رحمه وقدم منها لنفسه والآخر جانبها ولم يطلبها ولم يبذلها [ ص: 172 ] فأيهما أفضل؟ فقال بعيد والله ما بينهما الذي جانبها أفضل كما بين مشارق الأرض ومغاربها.

قال المصنف: فهذا كله كلام الحارث المحاسبي ذكره أبو حامد وشيده وقواه بحديث ثعلبة فإنه أعطي المال فمنع الزكاة قال أبو حامد: فمن راقب أحوال الأنبياء والأولياء وأقوالهم لم يشك في أن فقد المال أفضل من وجوده وإن صرف إلى الخيرات إذ أقل ما فيه اشتغالهم بإصلاحه عن ذكر الله عز وجل، فينبغي للمريد أن يخرج من ماله حتى لا يبقى له إلا قدر ضرورته، فما بقي له درهم يلتفت إليه قلبه فهو محجوب عن الله عز وجل.

قال المصنف: وهذا كله بخلاف الشرع والعقل وسوء فهم للمراد بالمال.

التالي السابق


الخدمات العلمية