الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فصل:

ومن تلبيسه على العوام إطلاقهم أنفسهم في المعاصي فإذا وبخوا تكلموا كلام الزنادقة فمنهم من يقول لا أترك نقدا لنسيئة ولو فهموا لعلموا أن هذا ليس بنقد لأنه محرم وإنما يخير بين النقد والنسيئة المباحين فمثلهم كمثل محموم جاهل يأكل العسل فإذا عوتب قال الشهوة نقد والعافية نسيئة ثم لو عملوا حقيقة الإيمان لعلموا أن تلك النسيئة وعد صادق لا يخلف ولو عملوا عمل التجار الذين يخاطرون بكثير من المال لما يرجونه من الربح القليل لعلموا أن ما تركوه قليل وما يرجونه كثير ولو أنهم ميزوا بين ما آثروا وما أفاتوا أنفسهم لرأوا تعجيل ما تعجلوا إذ فاتهم الربح الدائم وأوقعهم في العذاب الذي هو الخسران المبين الذي لا يتلافى ومنهم من يقول الرب كريم والعفو واسع والرجاء من الدين فيسمون تمنيهم واغترارهم رجاء وهذا الذي أهلك عامة المذنبين قال أبو عمرو بن العلاء بلغني أن الفرزدق جلس إلى قوم يتذكرون رحمة الله فكان أوسعهم في الرجاء صدرا فقال له لم تقذف المحصنات فقال احقروني لو أذنبت إلى ولدي ما أذنبته إلى ربي عز وجل أتراهما كانا يطيبان نفسا أن يقذفاني في تنور مملوء جمرا قالوا لا إنما كانا يرحمانك قال فإني أوثق برحمة ربي منهما قلت: وهذا هو الجهل المحض لأن رحمة الله عز وجل ليست برقة طبع ولو كانت كذلك لما ذبح عصفور ولا أميت طفل ولا أدخل أحد إلى جهنم وبإسناد عن عباد قال الأصمعي كنت مع أبي نواس بمكة فإذا أنا بغلام أمرد يستلم الحجر الأسود فقال لي أبو نواس والله لا أبرح حتى أقبله عند [ ص: 378 ] الحجر الأسود فقلت: ويلك اتق الله عز وجل فإنك ببلد حرام وعند بيته الحرام فقال ما منه بد ثم دنا من الحجر فجاء الغلام يستلمه فبادر أبو نواس فوضع خده على خد الغلام فقبله وأنا أنظر فقلت: ويلك أفي حرم الله عز وجل فقال دع ذا عنك فإن ربي رحيم ثم أنشد يقول:

وعاشقان التف خداهما عند استلام الحجر الأسود     فاشتفيا من غير أن يأثما
كأنما كانا على موعد

قلت: انظروا إلى هذه الجرأة التي نظر فيها إلى الرحمة ونسي شدة العقاب بانتهاك تلك الحرمة وقد ذكرنا في أول الكتاب هذا أن رجلا زنى بامرأة في الكعبة فمسخا حجرين ولقد دخلوا على أبي نواس في مرض موته فقالوا له تب إلى الله عز وجل فقال إياي تخوفون حدثني حماد بن سلمة ، عن يزيد الرقاشي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لكل نبي شفاعة وإني اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي أفترى لا أكون أنا منهم".

قال المصنف رحمه الله وخطأ هذا الرجل من وجهين أحدهما أنه نظر إلى جانب الرحمة لله ولم ينظر إلى جانب العقاب والثاني أنه نسي أن الرحمة إنما تكون لتائب كما قال عز وجل: ( وإني لغفار لمن تاب ) وقال: ( ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ) وهذا التلبيس هو الذي أهلك عامة العوام وقد كشفناه في ذكر أهل الإباحة.

التالي السابق


الخدمات العلمية