الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فصل: ومن تلبيسه عليهم: أنه يوهمهم أن الزهد ترك المباحات فمنهم من لا يزيد على خبز الشعير، ومنهم من لا يذوق الفاكهة، ومنهم من يقلل المطعم حتى ييبس بدنه ويعذب نفسه بلبس الصوف ويمنعها الماء البارد، وما هذه طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا طريق أصحابه وأتباعهم، وإنما كانوا يجوعون إذا لم يجدوا شيئا فإذا وجدوا أكلوا. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل اللحم ويحبه ويأكل الدجاج ويحب الحلوى ويستعذب له الماء البارد ويختار الماء البائت فإن الماء الجاري يؤذي المعدة ولا يروي، وقد كان رجل يقول: أنا لا آكل الخبيص لأني لا أقوم بشكره، فقال الحسن البصري: هذا رجل أحمق وهل يقوم بشكر الماء البارد، وقد كان سفيان الثوري إذا سافر حمل في سفرته اللحم المشوي والفالوذج وينبغي للإنسان أن يعلم أن نفسه مطيته ولا بد من الرفق بها ليصل بها إلى المقصود فليأخذ ما يصلحها وليترك ما يؤذيها من الشبع والإفراط في تناول الشهوات؛ فإن ذلك يؤذي البدن والدين.

ثم إن الناس يختلفون في طباعهم فإن الأعراب إذا لبسوا الصوف واقتصروا على شرب اللبن لم نلمهم لأن مطايا أبدانهم تحمل ذلك. وأهل السواد إذا لبسوا الصوف وأكلوا الكوامخ لم نلمهم أيضا ولا نقول في هؤلاء من قد حمل على نفسه لأن هذه عادة القوم. فأما إذا كان البدن مترفا قد نشأ على التنعم فإنا ننهى صاحبه أن يحمل عليه ما يؤذيه. فإن تزهد وآثر ترك الشهوات إما لأن الحلال لا يحتمل السرف أو لأن الطعام اللذيذ يوجب كثرة التناول فيكثر النوم والكسل فهذا يحتاج أن يعلم ما يضر تركه وما لا يضر فيأخذ قدر القوام من غير أن يؤذي النفس. وقد ظن قوم أن الخبز القفاز يكفي في قوام البدن ولو كفى إلا أن الاقتصار يؤدي من جهة أن أخلاط البدن تفتقر إلى الحامض والحلو والحار والبارد والممسك والمسهل.

وقد جعل في الطبع ميل إلى الملايم فتارة يميل [ ص: 147 ] إلى الحامض، وتارة يميل إلى الحلو مثل أن يقل عندها البلغم الذي لا بد في قوامها منه فتشتاق إلى اللبن، ويكثر عندها الصفراء فتميل إلى الحموضة، فمن كفها عن التصرف على مقتضى ما قد وضع في طبعها مما يصلحها فقد آذاها إلا أن يكفها عن الشبع والشره وما يخاف عاقبته فإن ذلك يفسدها. فأما الكف المطلق فخطأ فافهم هذا. ولا يلتفت إلى قول الحارث المحاسبي ، وأبي طالب المكي فيما ذكرا من تقليل المطعم ومجاهدة النفس بترك مباحاتها فإن اتباع الشارع وصحابته أولى. وكان ابن عقيل يقول: ما أعجب أموركم في المتدين إما أهواء متبعة أو رهبانية مبتدعة، بين تجرير أذيال المرح في الصبا واللعب، وبين إهمال الحقوق وإطراح العيال واللحوق بزوايا المساجد فهلا عبدوا على عقل وشرع.

التالي السابق


الخدمات العلمية