الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[فصل]:

وقد اندس في الصوفية أهل الإباحة فتشبهوا بهم حفظا لدمائهم وهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول، كفار فمنهم قوم لا يقرون بالله سبحانه وتعالى ومنهم من يقر به ولكن يجحد النبوة ويرى أن ما جاء به الأنبياء محال وهؤلاء لما أرادوا أمراح أنفسهم في شهواتها لم يجدوا شيئا يحقنون به دماءهم ويستترون به وينالون فيه أغراض النفوس، كمذهب التصوف فدخلوا فيه ظاهرا وهم في الباطن كفرة وليس لهؤلاء إلا السيف لعنهم الله، والقسم الثاني قوم يقرون بالإسلام إلا أنهم ينقسمون قسمين: القسم الأول يقلدون في أفعالهم لشيوخهم من غير اتباع دليل ولا شبهة فهم يفعلون ما يأمرونهم به وما رأوهم عليه، القسم الثالث قوم عرضت لهم شبهات فعملوا بمقتضاها والأصل الذي نشأت منه شبهاتهم أنهم لما هموا بالنظر في مذاهب الناس لبس عليهم إبليس فأراهم أن الشبهة تعارض الحجج وأن التمييز يعسر وأن المقصود أجل من أن ينال بالعلم وإنما الظفر به رزق يساق إلى العبد لا بالطلب فسد عليهم باب النجاة الذي هو طلب العلم فصاروا يبغضون اسم العلم كما يبغض الرافضي اسم أبي بكر ، وعمر ويقولون العلم حجاب والعلماء محجوبون عن المقصود بالعلم فإن أنكر عليهم عالم قالوا لأتباعهم هذا موافق لنا في الباطن وإنما يظهر ضد ما نحن فيه للعوام الضعاف العقول فإن جد في خلافهم قالوا: هذا أبله مقيد بقيود الشريعة محجوب عن المقصود، ثم عملوا على شبهات وقعت لهم ولو فطنوا لعلموا أن عملهم بمقتضى شبهاتهم علم، فقد بطل إنكارهم العلم، وأنا [ ص: 353 ] أذكر شبهاتهم وأكشفها إن شاء الله تعالى وهي ست شبهات: الشبهة الأولى: أنهم قالوا إذا كانت الأمور مقدرة في القدم وأن أقواما خصوا بالسعادة، وأقواما بالشقاوة، والسعيد لا يشقى، والشقي لا يسعد، والأعمال لا تراد لذاتها بل لاجتلاب السعادة ودفع الشقاوة، وقد سبقنا وجود الأعمال فلا وجه لإتعاب النفس في عمل ولا نكفها عن ملذوذ لأن المكتوب في القدر واقع لا محالة.

والجواب عن هذه الشبهة، أن يقال لهم هذا رد لجميع الشرائع وإبطال لجميع أحكام الكتب وتبكيت للأنبياء كلهم فيما جاؤوا به لأنه إذا قال في القرآن أن أقيموا الصلاة قال القائل لماذا إن كنت سعيدا فمصيري إلى السعادة وإن كنت شقيا فمصيري إلى الشقاوة فما تنفعني إقامة الصلاة وكذلك إذا قال ولا تقربوا الزنا يقول القائل لماذا أمنع نفسي ملذوذها والسعادة والشقاوة مقضيتان قد فرغ منهما، وكان لفرعون أن يقول لموسى حين قال له: ( هل لك إلى أن تزكى ) مثل هذا الكلام ثم يترقى إلى الخالق فيقول: ما فائدة إرسالك الرسل وسيجري ما قدرته؟ وما يفضي إلى رد الكتب وتجهيل الرسل محال باطل، ولهذا كان رد الرسول صلى الله عليه وسلم على أصحابه حين قالوا ألا نتكل، فقال (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) واعلم أن للآدمي كسبا هو اختياره فعليه يقع الثواب والعقاب فإذا خالف تبين لنا أن الله عز وجل قضى في السابق بأن يخالفه وإنما يعاقبه على خلافه لا على قضائه; ولهذا يقتل القاتل ولا يعتذر له بالقدر، وإنما ردهم الرسول عن ملاحظة القدر إلى العمل لأن الأمر والنهي حال ظاهر والمقدر من ذلك أمر باطن وليس لنا أن نترك ما عرفناه من تكليف ما لا نعلمه من المقضي وقول "فكل ميسر لما خلق له" إشارة إلى أسباب القدر، فإنه من قضي له بالعلم يسر له طلبه وحبه وفهمه، ومن حكم له بالجهل نزع حب العلم من قلبه، وكذلك من قضي له بولد يسر له النكاح، ومن لم يقض له بولد لم ييسر له.

التالي السابق


الخدمات العلمية