الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ذكر تلبيس إبليس على أمتنا في العقائد والديانات

قال المصنف: دخل إبليس على هذه الأمة في عقائدها من طريقين: أحدهما: التقليد للآباء، والأسلاف. والثاني: الخوض فيما لا يدرك غوره، ويعجز الخائض عن الوصول إلى عمقه، فأوقع أصحاب هذا القسم في فنون من التخليط. فأما الطريق الأول فإن إبليس زين للمقلدين أن الأدلة قد تشتبه، والصواب قد يخفى، والتقليد سليم، وقد ضل في هذا الطريق خلق كثير، وبه هلاك عامة الناس، فإن اليهود والنصارى قلدوا آباءهم وعلماءهم فضلوا، وكذلك أهل الجاهلية. واعلم أن العلة التي بها مدحوا التقليد بها يذم، لأنه إذا كانت الأدلة تشتبه، والصواب يخفى; وجب هجر التقليد لئلا يوقع في ضلال، وقد ذم الله سبحانه وتعالى الواقفين مع تقليد آبائهم، وأسلافهم، فقال عز وجل: ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم ) المعنى أتتبعونهم وقد قال عز وجل: ( إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون ) .

[ ص: 80 ] قال المصنف: اعلم أن المقلد على غير ثقة فيما قلد فيه، وفي التقليد إبطال منفعة العقل; لأنه إنما خلق للتأمل، والتدبر، وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها، ويمشي في الظلمة. واعلم أن عموم أصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم الشخص فيتبعون قوله من غير تدبر بما قال، وهذا عين الضلال; لأن النظر ينبغي أن يكون إلى القول لا إلى القائل كما قال علي رضي الله عنه للحارث بن حوط ، وقد قال له: أتظن أنا نظن أن طلحة ، والزبير كانا على باطل، فقال له: يا حارث ، إنه ملبوس عليك; إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله. وكان أحمد بن حنبل يقول: من ضيق علم الرجل أن يقلد في اعتقاده رجلا; ولهذا أخذ أحمد بن حنبل بقول زيد في الجد، وترك قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، " فإن قال قائل" فالعوام لا يعرفون الدليل، فكيف لا يقلدون؟ فالجواب: إن دليل الاعتقاد ظاهر على ما أشرنا إليه في ذكر الدهرية، ومثل ذلك لا يخفى على عاقل، وأما الفروع فإنها لما كثرت حوادثها، واعتاص على العامي عرفانها، وقرب لها أمر الخطإ فيها كان أصلح ما يفعله العامي التقليد فيها لمن قد سبر، ونظر، إلا أن اجتهاد العامي في اختيار من يقلده.

قال المصنف: وأما الطريق الثاني فإن إبليس لما تمكن من الأغبياء فورطهم في التقليد، وساقهم سوق البهائم، ثم رأى خلقا فيهم نوع ذكاء وفطنة، فاستغواهم على قدر تمكنه منهم، فمنهم من قبح عنده الجمود على التقليد، وأمره بالنظر، ثم استغوى كلا من هؤلاء بفن، فمنهم من أراه أن الوقوف مع ظواهر الشرائع عجز، فساقهم إلى مذهب الفلاسفة، ولم يزل بهؤلاء حتى أخرجهم عن الإسلام، وقد سبق ذكرهم في الرد على الفلاسفة، ومن هؤلاء من حسن له أن لا يعتقد إلا ما أدركته حواسه، فيقال لهؤلاء: بالحواس علمتم صحة قولكم؟ فإن قالوا: نعم، كابروا، لأن حواسنا لم تدرك ما قالوا; إذ ما يدرك بالحواس لا يقع فيه خلاف، وإن قالوا: بغير الحواس، ناقضوا قولهم. ومنهم من نفره إبليس عن التقليد، وحسن له الخوض في علم الكلام، والنظر في أوضاع الفلاسفة ليخرج بزعمه عن غمار العوام، وقد تنوعت أحوال المتكلمين، وأفضى الكلام بأكثرهم إلى الشكوك، وببعضهم إلى الإلحاد، ولم تسكت القدماء من فقهاء هذه الأمة عن الكلام عجزا، ولكنهم رأوا أنه لا يشفي غليلا، ثم يرد الصحيح عليلا، فأمسكوا عنه، ونهوا عن الخوض فيه [ ص: 81 ] حتى قال الشافعي رحمه الله: لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في الكلام. قال: وإذا سمعت الرجل يقول: الاسم هو المسمى، أو غير المسمى، فاشهد أنه من أهل الكلام، ولا دين له. قال: وحكمي في علماء الكلام أن يضربوا بالجريد، ويطاف بهم في العشائر، والقبائل. ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب، والسنة، وأخذ في الكلام، وقال أحمد بن حنبل: لا يفلح صاحب كلام أبدا، علماء الكلام زنادقة.

قال المصنف: قلت: وكيف لا يذم الكلام وقد أفضى بالمعتزلة إلى أنهم قالوا: إن الله عز وجل يعلم جمل الأشياء، ولا يعلم تفاصيلها، وقال جهم بن صفوان: علم الله وقدرته وحياته محدثة، وقال أبو محمد النوبختي ، عن جهم أنه قال: إن الله عز وجل ليس بشيء. وقال أبو علي الجبائي ، وأبو هاشم ، ومن تابعهما من البصريين: المعدوم شيء، وذات، ونفس، وجوهر، وبياض وصفرة، وحمرة، وإن الباري سبحانه وتعالى لا يقدر على جعل الذات ذاتا، ولا العرض عرضا، ولا الجوهر جوهرا، وإنما هو قادر على إخراج الذات من العدم إلى الوجود. وحكى القاضي أبو يعلى في كتاب المقتبس قال: قال لي العلاف المعتزلي: لنعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار أمر لا يوصف الله بالقدرة على دفعه، ولا تصح الرغبة حينئذ إليه، ولا الرهبة منه; لأنه لا يقدر إذ ذاك على خير، ولا شر، ولا نفع، ولا ضر. قال: ويبقى أهل الجنة جمودا سكوتا لا يفضون بكلمة، ولا يتحركون، ولا يقدرون هم ولا ربهم على فعل شيء من ذلك; لأن الحوادث كلها لا بد لها من آخر تنتهي إليه لا يكون بعده شيء. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

قال المصنف: قلت: وذكر أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمد البلخي في كتاب المقالات أن أبا الهذيل اسمه محمد بن الهذيل العلاف ، وهو من أهل البصرة من عبد القيس مولى لهم، وانفرد بأن قال: أهل الجنة تنقضي حركاتهم، فيصيرون إلى سكون دائم، وأن لما يقدر الله عليه نهاية لو خرج إلى الفعل، ولن يخرج استحال أن يوصف الله عز وجل بالقدرة على غيره، وكان يقول: إن علم الله هو الله، وإن قدرة الله هي الله، وقال أبو هاشم: من تاب عن كل شيء إلا أنه شرب جرعة من خمر، فإنه يعذب عذاب أهل الكفر أبدا، وقال النظام: إن الله [ ص: 82 ] عز وجل لا يقدر على شيء من الشر، وإن إبليس يقدر على الخير، والشر. وقال هشام القوطي: إن الله لا يوصف بأنه عالم لم يزل، وقال بعض المعتزلة: يجوز على الله سبحانه وتعالى الكذب، إلا أنه لم يقع منه، وقالت المجبرة: لا قدر للآدمي، بل هو كالجماد مسلوب الاختيار والفعل، وقالت المرجئة: إن من أقر بالشهادتين، وأتى بكل المعاصي لم يدخل النار أصلا، وخالفوا الأحاديث الصحاح في إخراج الموحدين من النار. قال ابن عقيل: ما أشبه أن يكون واضع الإرجاء زنديقا، فإن صلاح العالم بإثبات الوعيد واعتقاد الجزاء، فالمرجئة لما لم يمكنهم جحد الصانع لما فيه من نفور الناس، ومخالفة العقل أسقطوا فائدة الإثبات: وهي الخشية، والمراقبة، وهدموا سياسة الشرع، فهم شر طائفة على الإسلام.

قال المصنف: قلت: وتبع أبو عبد الله بن كرام ، فاختار من المذاهب أردأها، ومن الأحاديث أضعفها، ومال إلى التشبيه، وأجاز حلول الحوادث في ذات الباري سبحانه وتعالى، وقال: إن الله لا يقدر على إعادة الأجسام، والجواهر، إنما يقدر على ابتدائها. قالت السالمية: إن الله عز وجل يتجلى يوم القيامة لكل شيء في معناه، فيراه الآدمي آدميا، والجني جنيا، وقالوا: الله سر، لو أظهره لبطل التدبير.

قال المصنف: قلت: أعوذ بالله من نظر وعلوم أوجبت هذه المذاهب القبيحة، وقد زعم أرباب الكلام أنه لا يتم الإيمان إلا بمعرفة ما رتبوه، وهؤلاء على الخطإ; لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالإيمان، ولم يأمر ببحث المتكلمين، ودرجة الصحابة الذين شهد لهم الشارع بأنهم خير الناس على ذلك. وقد ورد ذم الكلام على ما قد أشرنا إليه، وقد نقل إلينا إقلاع منطقي المتكلمين عما كانوا عليه لما رأوا من قبح غوائله.

فأخبرنا أبو منصور القزاز ، نا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت ، نا أبو منصور محمد بن عيسى بن عبد العزيز البزار ، ثنا صالح الوفاة بن أحمد بن محمد الحافظ ، ثنا أحمد بن عبيد بن إبراهيم ، ثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث قال: سمعت أحمد بن سنان قال: كان الوليد بن أبان الكرابيسي خالي، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: تعلمون أحدا أعلم بالكلام مني؟ قالوا: لا، قال: فتتهمونني؟ قالوا: لا، قال: فإني أوصيكم أتقبلون؟ قالوا: نعم، قال: عليكم بما عليه أصحاب الحديث، فإني رأيت [ ص: 83 ] الحق معهم. وكان أبو المعالي الجويني يقول: لقد جلت أهل الإسلام جولة، وعلومهم، وركبت البحر الأعظم، وغصت في الذي نهوا عنه; كل ذلك في طلب الحق، وهربا من التقليد، والآن فقد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز; فإن لم يدركني الحق بلطيف بره، فأموت على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص، فالويل لابن الجويني ، وكان يقول لأصحابه: يا أصحابنا، لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما تشاغلت به، وقال أبو الوفاء بن عقيل لبعض أصحابه: أنا أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض، فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن، وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر ، وعمر فبئس ما رأيت. قال: وقد أفضى الكلام بأهله إلى الشكوك، وكثير منهم إلى الإلحاد; تشم روائح الإلحاد من فلتات كلام المتكلمين، وأصل ذلك أنهم ما قنعوا بما قنعت به الشرائع، وطلبوا الحقائق، وليس في قوة العقل إدراك ما عند الله من الحكمة التي انفرد بها، ولا أخرج الباري من علمه لخلقه ما علمه هو من حقائق الأمور. قال: وقد بالغت في الأول طول عمري، ثم عدت القهقرى إلى مذهب الكتب. وإنما قالوا: إن مذهب العجائز أسلم، لأنهم لما انتهوا إلى غاية التدقيق في النظر لم يشهدوا ما ينفي العقل من التعليلات، والتأويلات، فوقفوا مع مراسم الشرع، وجنحوا عن القول بالتعليل، وأذعن العقل بأن فوقه حكمة إلهية فسلم، وبيان هذا أن نقول: أحب أن يعرف، أراد أن يذكر، فيقول قائل: هل شغف باتصال النفع؟ هل دعاه داع إلى إفاضة الإحسان؟ ومعلوم أن للداعي عوارض على الذات، وتطلبات من النفس، وما تعقل ذلك إلا الذات يدخل عليها داخل من شوق إلى تحصيل ما لم يكن لها وهي إليه محتاجة، فإذا وجد ذلك العرض سكن الشغف، وفتر الداعي، وذلك الحاصل يسمى غنى، والقديم لم يزل موصوفا بالغنى منعوتا بالاستقلال بذاته الغنية عن استزادة، أو عارض، ثم إذا نظرنا في إنعامه رأيناه مشحونا بالنقص، والآلام، وأذى الحيوانات، فإذا رام العقل أن يعلل بالإنعام جاء تحقيق النظر، فرأى أن الفاعل قادر على الصفاء، ولا صفاء، ورآه منزها بأدلة العقل عن البخل الموجب لمنع ما يقدر على تحصيله، وعن العجز عن دفع ما يعرض لهذه الموجودات من الفساد، فإذا عجز عن التعليل كان التسليم أولى، وإنما دخل الفساد من أن الخلق اقتضاؤه الفوائد، ودفع [ ص: 84 ] المضار على مقتضى قدرته، ولو مزجوا في ذلك العلم بأنه الحكيم لاقتضت نفوسهم له التسليم بحسب حكمته، فعاشوا في بحبوحة التفويض بلا اعتراض.

التالي السابق


الخدمات العلمية