الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال ابن هشام: وحدثنا الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رفعت لي النار فرأيت عمرو بن لحي قصيرا أحمر أزرق يجر قصبه في النار، قلت: من هذا؟ قيل: هذا عمرو بن لحي أول من بحر البحيرة، ووصل الوصيلة، وسيب السائبة، وحمى الحام، وغير دين إسماعيل، ودعا العرب إلى عبادة الأوثان". قال هشام: وحدثني أبي وغيره أن إسماعيل عليه [ ص: 55 ] الصلاة والسلام لما سكن مكة، وولد له فيها أولاد، فكثروا حتى ملؤوا مكة ونفوا من كان بها من العماليق ضاقت عليهم مكة، ووقعت بينهم الحروب، والعداوات، فأخرج بعضهم بعضا، فتفسحوا في البلاد، والتمسوا المعاش، فكان الذي حملهم على عبادة الأوثان والحجارة أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم، وصيانة لمكة، فحيث ما حلوا وضعوه، وطافوا به كطوافهم بالكعبة تيمنا منهم بها، وصيانة للحرم، وحبا له، وهم بعد يعظمون الكعبة، ومكة، ويحجون، ويعتمرون على أثر إبراهيم، وإسماعيل، ثم عبدوا ما استحسنوا ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم، وإسماعيل عليهما السلام غيره، فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم، واستخرجوا ما كان يعبد قوم نوح وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل يتمسكون بها من تعظيم البيت، والطواف به، والحج والعمرة، والوقوف بعرفة، والمزدلفة، وإهداء البدن، والإهلال بالحج والعمرة، وكانت نزار تقول إذا ما أهلت: (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه، وما ملك ) .

وكان أول من غير دين إسماعيل ونصب الأوثان وثيب السائبة، ووصل الوصيلة عمرو بن ربيعة ، وهو لحي بن حارثة ، وهو أبو خزاعة ، وكانت أم عمرو بن لحي فهيرة بنت عامر بن الحارث وكان الحارث هو الذي يلي أمر الكعبة، فلما بلغا عمرو بن لحي نازعه في الولاية، وقاتل جرهم بن إسماعيل فظفر بهم، وأجلاهم عن الكعبة، ونفاهم من بلاد مكة، وتولى حجابة البيت من بعدهم، ثم إنه مرض مرضا شديدا، فقيل له: إن بالبلقاء من أرض الشام حمة إن أتيتها برئت، فأتاها، فاستحم بها، فبرأ ووجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال: ما هذه، فقالوا: نستسقي بها المطر، ونستنصر بها على العدو، فسألهم أن يعطوه منها ففعلوا، فقدم بها مكة، ونصبها حول الكعبة واتخذت العرب الأصنام.

وكان أقدمها مناة، وكان منصوبا على ساحل البحر من ناحية المسلك بقديد بين مكة والمدينة، وكانت العرب جميعا تعظمه، والأوس، والخزرج، ومن نزل [ ص: 56 ] المدينة، ومكة، وما والاها، ويذبحون له، ويهدون له.

قال هشام: وحدثنا رجل من قريش، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عامر بن يسار قال: كانت الأوس، والخزرج، ومن يأخذ مأخذهم من العرب من أهل يثرب وغيرها يحجون، فيقفون مع الناس المواقف كلها، ولا يحلقون رؤوسهم، فإذا نفروا أتوه فحلقوا عنده رؤوسهم، وأقاموا عنده لا يرون لحجهم تماما إلا بذلك، وكانت مناة لهذيل وخزاعة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه، فهدمها عام الفتح.

ثم اتخذوا اللات بالطائف، وهي أحدث من مناة، وكانت صخرة مرتفعة، وكانت سدنتها من ثقيف، وكانوا قد بنوا عليها بناء، وكانت قريش وجميع العرب تعظمها، وكانت العرب تسمي زيد اللات وتيم اللات، وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم، فلم يزالوا كذلك حتى أسلمت ثقيف، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة ، فهدمها، وحرقها بالنار.

ثم اتخذوا العزى، وهي أحدث من اللات، اتخذه ظالم بن أسعد ، وكانت بوادي نخلة الشامية فوق ذات عرق، وبنوا عليها بيتا، وكانوا يسمعون منه الصوت.

قال هشام: وحدثني أبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت العزى شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة، فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد ، فقال: ائت بطن نخلة، فإنك تجد ثلاث سمرات فاعتضد الأولى فأتاها فعضدها، فلما جاء إليه قال: هل رأيت شيئا؟ قال: لا، قال: فاعضد الثانية، فأتاها فعضدها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هل رأيت شيئا؟ قال: لا، قال: فاعضد الثالثة، فأتاها، فإذا هو بجنية نافشة شعرها واضعة يديها على عاتقها تصر بأنيابها، وخلفها ديبة السلمي ، وكان سادنها، فقال خالد:


يا عز كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك



ثم ضربها ففلق رأسها، فإذا هي حممة، ثم عضد الشجرة، وقتل ديبة السادن، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: تلك العزى، ولا عزى بعدها للعرب.


[ ص: 57 ] قال هشام: وكان لقريش أصنام في جوف الكعبة، وحولها، وأعظمها عندهم هبل، وكان فيما بلغني من عقيق أحمر على صورة الإنسان مكسور اليد اليمنى أدركته قريش كذلك فجعلوا له يدا من ذهب، وكان أول من نصبه خذيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ، وكان في جوف الكعبة، وكان قدامه سبعة أقدح مكتوب في أحدها صريح، وفي الآخر ملصق، فإذا شكوا في مولود أهدوا له هدية، ثم ضربوا بالقدح، فإن خرج صريح ألحقوه، وإن خرج ملصقا دفعوه، وكانوا إذا اختصموا في أمر أو أرادوا سفرا أو عملا أتوه فاستقسموا بالقداح عنده، وهو الذي قال له أبو سفيان يوم أحد: اعل هبل أي علا دينك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأصحابه: "ألا تجيبونه". فقالوا: وما نقول؟ قال: "قولوا الله أعلى وأجل". وكان لهم إساف ونائلة، قال هشام: فحدث الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس أن إساف رجل من جرهم يقال له: إساف بن يعلى ، ونائلة بنت زيد من جرهم، وكان يتعشقها في أرض اليمن، فأقبلا حجاجا، فدخلا البيت، فوجدا غفلة من الناس وخلوة من البيت، ففجر بها في البيت فمسخا، فأصبحوا فوجدوهما ممسوخين، فأخرجوهما فوضعوهما موضعهما، فعبدتهما خزاعة، وقريش، ومن حج البيت بعد من العرب. قال هشام: لما مسخا حجرين وضعا عند البيت ليقظ الناس بهما، فلما طال مكثهما، وعبدت الأصنام عبدا معها، وكان أحدهما ملصقا بالكعبة، والآخر في موضع زمزم، فنقلت قريش الذي كان ملصقا بالكعبة إلى الآخر فكانوا ينحرون ويذبحون عندهما.

وكان من تلك الأصنام ذو الخلصة، وكان مروة بيضاء منقوشة عليها كهيئة التاج، وكانت بتبالة بين مكة والمدينة على مسيرة سبع ليال من مكة، وكانت تعظمها وتهدي لها خثعم، وبجيلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجرير رضي الله عنه: "ألا تكفني ذا الخلصة". فوجهه إليه، فسار بأحمس، فقابلته خثعم وباهلة، فظفر بهم، وهدم بنيان ذي الخلصة، وأضرم فيه النار، وذو الخلصة اليوم عتبة باب مسجد تبالة.

[ ص: 58 ] وكان لدوس صنم يقال له: ذو الكفين، فلما أسلموا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الطفيل بن عمرو فحرقه.

وكان لبني الحارث بن يشكر صنم يقال له: ذو الثرى.

وكان لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان صنم في مشارف الشام يقال له: الأقيصر.

وكان لمزينة صنم يقال له: فهم، وبه كانت تسمى عبد فهم.

وكانت لعنزة صنم يقال له: سعير.

وكان لطيء صنم يقال له: الفلس، وكان لأهل كل واد من مكة صنم في دارهم يعبدونه، فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به، وإذا قدم من سفره كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به، ومنهم من اتخذ بيتا، ومن لم يكن له صنم ولا بيت نصب حجرا مما استحسن به، ثم طاف به، وسموها الأنصاب، وكان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها، فاتخذه ربا وجعله ثالثة الأثافي لقدره، فإذا ارتحل تركه، فإذا نزل منزلا آخر فعل مثل ذلك، ولما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة دخل المسجد والأصنام منصوبة حول الكعبة، فجعل يطعن بسية قوسه في عيونها ووجوهها، ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا". ثم أمر بها، فكفئت على وجوهها، ثم أخرجت من المسجد، فحرقت، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: في زمان يزد برد عبدت الأصنام، ورجع من رجع عن الإسلام.

أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، نا عمر بن عبيد الله ، نا أبو الحسين بن بشران ، نا عثمان بن أحمد الدقاق ، ثنا جميل ، ثنا حسن بن الربيع ، ثنا مهدي بن ميمون قال: سمعت أبا رجاء العطاردي يقول: لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعنا به لحقنا بمسيلمة الكذاب ، ولحقنا بالنار، وكنا نعبد الحجر في الجاهلية، فإذا وجدنا حجرا هو أحسن منه نلقي ذاك، ونأخذه، وإذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من تراب، ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه، ثم طفنا به. أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد ، نا [ ص: 59 ] أحمد بن أحمد الحداد ، نا أبو نعيم أحمد بن عبد الله ، ثنا أبو حامد بن جبلة ، ثنا أبو عباس السراج ، ثنا أحمد بن الحسن بن خراش ، ثنا مسلم بن إبراهيم ، ثنا عمارة المعولي ، قال: سمعت أبا رجاء العطاردي يقول: كنا نعمد إلى الرمل فنجمعه فنحلب عليه فنعبده، وكنا نعمد إلى الحجر الأبيض فنعبده زمانا، ثم نلقيه. أخبرنا أبو منصور القزاز ، نا أبو بكر بن ثابت ، نا عبد العزيز بن علي الوراق ، نا أحمد بن إبراهيم ، ثنا يوسف بن يعقوب النيسابوري ، نا أبو بكر بن أبي شيبة ، ثنا يزيد بن هارون ، نا الحجاج بن أبي زينب قال: سمعت أبا عثمان النهدي قال: كنا في الجاهلية نعبد حجرا، فسمعنا مناديا ينادي: يا أهل الرحال، إن ربكم قد هلك فالتمسوا لكم ربا غيره قال: فخرجنا على كل صعب وذلول، فبينما نحن كذلك نطلب إذا نحن بمناد ينادي: إنا قد وجدنا ربكم أو شبهه، قال: فجئنا، فإذا حجر فنحرنا عليه الجزر. أنبأنا محمد بن أبي طاهر ، نا أبو إسحاق البرمكي ، نا أبو عمر بن حيويه ، نا أحمد بن معروف ، نا الحسين بن الفهم ، ثنا محمد بن سعد ، نا محمد بن عمرو ، ثنى الحجاج بن صفوان ، عن ابن أبي حسين ، عن شهر بن حوشب ، عن عمرو بن عنبسة قال: كنت امرءا ممن يعبد الحجارة، فينزل الحي ليس معهم آلهة، فيخرج الحي منهم، فيأتي بأربعة أحجار، فينصب ثلاثة لقدره، ويجعل أحسنها إلها يعبد، ثم لعله يجد ما هو أحسن منه قبل أن يرتحل فيتركه، ويأخذ غيره. أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك ، نا أبو الحسين بن عبد الجبار ، نا أبو الحسن العتيقي ، نا عثمان بن عمرو بن الميثاب ، نا أبو محمد عبد الله بن سليمان الفامي ، ثنى أبو الفضل محمد بن أبي هارون الوراق ، ثنا الحسن بن عبد العزيز الجروي ، عن شيخ من ساكني مكة قال: سئل سفيان بن عيينة كيف عبدت العرب الحجارة، والأصنام؟ فقال: أصل عبادتهم الحجارة أنهم قالوا: البيت حجر، فحيث ما نصبنا حجرا فهو بمنزلة البيت. وقال أبو معشر: كان كثير من أهل الهند يعتقد الربوبية، ويقرون بأن لله تعالى ملائكة، إلا أنهم يعتقدونه صورة كأحسن الصور، وأن الملائكة أجسام حسان، وأنه سبحانه وتعالى وملائكته محتجبون بالسماء، فاتخذوا أصناما على صورة الله سبحانه عندهم، وعلى صور الملائكة فعبدوها، وقربوا لها لموضع المشابهة على زعمهم، وقيل لبعضهم: إن الملائكة والكواكب والأفلاك أقرب الأجسام إلى الخالق فعظموها، وقربوا لها، ثم عملوا الأصنام.

التالي السابق


الخدمات العلمية