الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في ادعاء التوكل

وقطع الأسباب وترك الاحتراز في الأموال


أخبرنا المحمدان ابن ناصر ، وابن عبد الباقي بإسناد عن أحمد بن أبي الحواري قال سمعت أبا سليمان الداراني يقول لو توكلنا على الله تعالى ما بنينا الحيطان ولا جعلنا لباب الدار غلقا مخافة اللصوص . وبإسناد عن ذي النون المصري أنه قال سافرت سنين وما صح لي التوكل إلا وقتا واحدا ركبت البحر فكسر المركب فتعلقت بخشبة من خشب المركب فقالت لي نفسي إن حكم الله عليك بالغرق فما تنفعك هذه الخشبة فخليت الخشبة فطفت على الماء فوقعت على الساحل .

أخبرنا محمد قال سألت أبا يعقوب الزيات عن مسألة في التوكل فأخرج درهما كان عنده ثم أجابني . فأعطى التوكل حقه ثم قال استحييت أن أجيبك وعندي شيء وذكر أبو نصر السراج في كتاب اللمع قال جاء رجل إلى عبد الله بن الجلاء فسأله عن مسألة في التوكل وعنده جماعته فلم يجبه ودخل البيت فأخرج إليهم صرة فيها أربعة دوانق فقال اشتروا بهذه شيئا . ثم أجاب الرجل عن سؤاله فقيل له في ذلك فقال : استحييت من الله تعالى أن أتكلم في التوكل وعندي أربعة دوانق . وقال سهل بن عبد الله من طعن في الاكتساب فقد طعن على السنة ومن طعن على التوكل فقد طعن على الإيمان .

قال المصنف قلت : قلة العلم أوجبت هذا التخليط ، ولو عرفوا ماهية التوكل لعلموا أنه ليس بينه وبين الأسباب تضاد . وذلك أن التوكل اعتماد القلب على الوكيل وحده وذلك لا يناقض حركة البدن في التعلق بالأسباب ولا ادخار المال . فقد قال تعالى ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ) أي قواما لأبدانكم وقال صلى الله عليه وسلم . نعم المال الصالح مع الرجل الصالح . وقال صلى الله عليه وسلم إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس . واعلم أن الذي أمر بالتوكل أمر بأخذ الحذر ، فقال ( خذوا حذركم ) وقال ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) وقال ( فأسر بعبادي ليلا ) وقد ظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين وشاور طبيبين واختفى في الغار . وقال من يحرسني الليلة . وأمر [ ص: 271 ] بغلق الباب . وفي الصحيحين من من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أغلق بابك . وقد أخبرنا أن التوكل لا ينافي الاحتراز .

أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي ، نا عبد الله بن يحيى الموصلي ، ونصر بن أحمد قالا أخبرنا أبو الحسين بن بشران ، ثنا الحسين بن صفوان ، ثنا أبو بكر القرشي أبو جعفر الصيرفي ، ثنا يحيى بن سعيد ، ثنا المغيرة بن أبي قرة السدوسي قال سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وترك ناقته بباب المسجد فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال أطلقتها وتوكلت على الله قال اعقلها وتوكل .

أخبرنا ابن ناصر ، نا أبو الحسين بن عبد الجبار ، نا عبد العزيز بن علي الأزجي ، نا إبراهيم بن محمد بن جعفر ، نا أبو بكر عبد العزيز بن جعفر ، ثنا أبو بكر الخلال أخبرني حرب بن إسماعيل الكرماني ثني عبد الرحمن بن محمد بن سلام ، ثنا الحسين زياد المروزي قال سمعت سفيان بن عيينة يقول تفسير التوكل أن يرضى بما يفعل به .

وقال ابن عقيل يظن أقوام أن الاحتياط والاحتراز ينافي التوكل . وإن التوكل هو إهمال العواقب واطراح التحفظ وذلك عند العلماء هو العجز والتفريط الذي يقتضي من العقلاء التوبيخ والتهجين ولم يأمر الله بالتوكل إلا بعد التحرز واستفراغ الوسع في التحفظ فقال تعالى ( وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ) فلو كان التعلق بالاحتياط قادحا في التوكل لما خص الله به نبيه حين قال له ( وشاورهم في الأمر ) وهل المشاورة إلا استفادة الرأي الذي منه يؤخذ التحفظ والتحرز من العدو ولم يقنع في الاحتياط بأن يكله إلى رأيهم واجتهادهم حتى نص عليه وجعله عملا في نفس الصلاة وهي أخص العبادات . فقال ( فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم ) وبين علة ذلك بقوله تعالى ( ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ) ومن علم أن الاحتياط هكذا لا يقال أن التوكل عليه ترك ما علم . لكن التوكل التفويض فيما لا وسع فيه ولا طاقة . قال عليه الصلاة والسلام "اعقلها وتوكل" ولو كان التوكل ترك التحرز لخص به خير الخلق صلى الله عليه وسلم في خير الأحوال وهي حالة الصلاة . وقد ذهب الشافعي رحمه الله إلى وجوب حمل السلاح حينئذ لقوله . ( وليأخذوا أسلحتهم ) فالتوكل لا يمنع من [ ص: 272 ] الاحتياط والاحتراز فإن موسى عليه السلام لما قيل له : ( إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ) . خرج . ونبينا صلى الله عليه وسلم خرج من مكة لخوفه من المتآمرين عليه ووقاه أبو بكر رضي الله عنه بسد أثقاب الغار وأعطى القوم التحرز حقه ثم توكلوا وقال عز وجل في باب الاحتياط ( لا تقصص رؤياك على إخوتك ) وقال ( لا تدخلوا من باب واحد ) وقال : ( فامشوا في مناكبها ) وهذا لأن الحركة للذب عن النفس استعمال لنعمة الله تعالى وكما أن الله تعالى يريد إظهار نعمة المبدأة يريد إظهار وداعه فلا وجه لتعطيل ما أودع اعتمادا على ما جاد به . لكن يجب استعمال ما عندك ثم اطلب ما عنده وقد جعل الله تعالى للطير والبهائم عدة وأسلحة تدفع عنها الشرور كالمخلب والظفر والناب وخلق للآدمي عقلا يقوده إلى حمل الأسلحة ويهديه إلى التحصين بالأبنية والدروع ومن عطل نعمة الله تعالى بترك الاحتراز فقد عطل حكمته كمن يترك الأغذية والأدوية ثم يموت جوعا أو مرضا . ولا أبله ممن يدعي العقل والعلم ويستسلم للبلاء إنما ينبغي أن تكون أعضاء المتوكل في الكسب وقلبه ساكن مفوض إلى الحق منع أو أعطى . لأنه لا يرى إلا أن الحق سبحانه وتعالى لا يتصرف إلا بحكمة ومصلحة . فمنعه عطاء في المعنى . وكم زين للعجزة عجوزهم وسولت لهم أنفسهم أن التفريط توكل فصاروا في غرورهم بمثابة من اعتقد التهور شجاعة والخور حزما . ومتى وضعت أسباب فأهملت كان ذلك جهلا بحكمة الواضع . مثل وضع الطعام سببا للشبع والماء للري والدواء للمرض . فإذا ترك الإنسان ذلك إهوانا بالسبب ثم دعا وسأل فربما قيل له قد جعلنا لعافيتك سببا فإذا لم تتناوله كان إهوانا لعطائنا فربما لم نعافك بغير سبب لإهوانك للسبب وما هذا إلى بمثابة من بين قراحه وماء الساقية رفسه بمسحاة فأخذ يصلي صلاة الاستسقاء طلبا للمطر فإنه لا يستحسن منه ذلك شرعا ولا عقلا .

قال المصنف رحمه الله : فإن قال قائل كيف أحترز مع القدر قيل له وكيف لا تحترز مع الأوامر من المقدر فالذي قدر هو الذي أمر . وقد قال تعالى ( وخذوا حذركم ) أنبأنا إسماعيل بن أحمد ، نا عاصم بن الحسين ، نا ابن بشران ، ثنا أبو صفوان ، نا أبو بكر القرشي ثني شريح بن يونس ، نا علي بن ثابت ، عن خطاب بن القاسم عن أبي عثمان قال : كان عيسى عليه السلام يصلي على رأس جبل فأتاه إبليس [ ص: 273 ] فقال أنت الذي تزعم أن كل شيء بقضاء وقدر . قال نعم قال فألق نفسك من الجبل وقل قدر علي فقال : يا لعين الله يختبر العباد وليس للعباد أن يختبروا الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية