الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ذكر تلبيسه على الدهرية

قال المصنف: قد أوهم إبليس خلقا كثيرا أنه لا إله، ولا صانع، وأن هذه الأشياء كانت بلا مكون، وهؤلاء لما لم يدركوا الصانع بالحس، ولم يستعملوا في معرفته العقل جحدوه، وهل يشك ذو عقل في وجود صانع، فإن الإنسان لو مر بقاع ليس فيه بنيان، ثم عاد فرأى حائطا مبنيا علم أنه لا بد له من بان بناه، فهذا المهاد الموضوع، وهذا السقف المرفوع، وهذه الأبنية العجيبة، والقوانين الجارية على وجه الحكمة أما تدل على صانع، وما أحسن ما قال بعض العرب: إن البعرة تدل على البعير، فهيكل علوي بهذه اللطافة، ومركز سفلي بهذه الكثافة أما يدلان على اللطيف الخبير، ثم لو تأمل الإنسان نفسه لكفت دليلا، [ ص: 42 ] ولشفت غليلا فإن في هذا الجسد من الحكم ما لا يسع ذكره في كتاب، ومن تأمل تحديد الأسنان لتقطع، وتقريض الأضراس لتطحن، واللسان يقلب الممضوغ، وتسليط الكبد على الطعام ينضجه، ثم ينفذ إلى كل جارحة قدر ما تحتاج إليه من الغذاء، وهذه الأصابع التي هيئت فيها العقد لتطوى وتنفتح، فيمكن العمل بها، ولم تجوف لكثرة عملها; إذ لو جوفت لصدمها الشيء القوي فكسرها، وجعل بعضها أطول من بعض لتستوي إذا ضمت، وأخفى في البدن ما فيه قوامه، وهي النفس التي إذا ذهبت فسد العقل الذي يرشد إلى المصالح، وكل شيء من هذه الأشياء ينادي: أفي الله شك؟ وإنما يخبط الجاحد لأنه طلبه من حيث الحس، ومن الناس من جحده لأنه لما أثبت وجوده من حيث الجملة لم يدركه من حيث التفصيل، فجحد أصل الوجود، ولو أعمل هذا فكره لعلم أن لنا أشياء لا تدرك إلا جملة كالنفس والعقل، ولم يمتنع أحد من إثبات وجودهما، وهل الغاية إلا إثبات الخلق جملة، وكيف يقال كيف هو أو ما هو ولا كيفية له ولا ماهية. ومن الأدلة القطعية على وجوده أن العالم حادث بدليل أنه لا يخلو من الحوادث، وكل ما لا ينفك عن الحوادث حادث، ولا بد لحدوث هذا الحادث من مسبب وهو الخالق سبحانه. وللملحدين اعتراض يتطاولون به على قولنا: لا بد للصنعة من صانع، فيقولون: إنما تعلقتم في هذا بالشاهد، وإليه نقاضيكم فنقول: كما أنه لا بد للصنعة من صانع فلا بد للصورة الواقعة من الصانع من مادة تقع الصورة فيها; كالخشب لصورة الباب، والحديد لصورة الفأس، قالوا: فدليلكم الذي تثبتون به الصانع يوجب قدم العالم، فالجواب أنه لا حاجة بنا إلى مادة، بل نقول: إن الصانع اخترع الأشياء اختراعا، فإنا نعلم أن الصور والأشكال المتجددة في الجسم كصورة الدولاب ليس لها مادة، وقد اخترعها، ولا بد لها من مصور، فقد أريناكم صورة وهي شيء جاءت لا من شيء، ولا يمكنكم أن ترونا صنعة جاءت لا من صانع.

التالي السابق


الخدمات العلمية