الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فصل:

وقد لبس إبليس على أصحاب الأموال من أربعة أوجه أحدها من جهة كسبها فلا يبالون كيف حصلت وقد فشا الربا في أكثر معاملاتهم وأنسوه حتى أن جمهور معاملاتهم خارجة عن الإجماع وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء من أين أخذ المال من حلال أو حرام" والثاني من جهة البخل بها فمنهم من لا يخرج الزكاة أصلا إنكالا على العفو ومنهم من يخرج بعضا ثم يغلبه البخل فينظر أن المخرج يدفع عنه ومنهم من يحتال لإسقاطها مثل أن يهب المال قبل الحول ثم يسترده ومنهم من يحتال بإعطاء الفقير ثوبا يقومه عليه بعشرة دنانير وهو يساوي دينارين ويظن ذلك الجاهل أنه قد تخلص ومنهم من يخرج الرديء مكان الجيد ومنهم من يعطي [ ص: 382 ] الزكاة لمن يستخدمه طول السنة فهي على الحقيقة أجرة ومنهم من يخرج الزكاة كما ينبغي فيقول له إبليس ما بقي عليك فيمنعه أن يتنفل بصدقة حبا للمال فيفوته أجر المتصدقين ويكون المال رزق غيره.

وبإسناد عن الضحاك عن ابن عباس قال أول ما ضرب الدرهم أخذه إبليس فقبله ووضعه على عينه وسرته وقال بك أطغى وبك أكفر رضيت من ابن آدم بحبه الدينار من أن يعبدني وعن الأعمش ، عن شقيق عن عبد الله قال إن الشيطان يرد الإنسان بكل ريدة فإذا أعياه اضطجع في ماله فيمنعه أن ينفق منه شيئا والثالث من حيث التكثير بالأموال فإن الغني يرى نفسه خيرا من الفقير وهذا جهل لأن الفضل بفضائل النفس اللازمة لها لا تجمع حجارة خارجة عنها كما قال الشاعر:

غنى النفس لمن يعقل خير من غنى المال     وفضل النفس في الأنفس
وليس الفضل في الحال

والرابع في إنفاقها فمنهم من ينفقها على وجه التبذير والإسراف تارة في البنيان الزائد على مقدار الحاجة وتزويق الحيطان وزخرفة البيوت وعمل الصور وتارة في اللباس الخارج بصاحبه إلى الكبر والخيلاء وتارة في المطاعم الخارجة إلى السرف وهذه الأفعال لا يسلم صاحبها من فعل محرم أو مكروه وهو مسؤول عن جميع ذلك.

وبإسناد عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا ابن آدم لا تزول قدماك يوم القيامة بين يدي الله عز وجل حتى تسأل عن أربع عمرك فيما أفنيته وجسدك فيما أبليته ومالك من أين اكتسبته وأين أنفقته"؟ ومنهم من ينفق في بناء المساجد والقناطر إلا أنه يقصد الرياء والسمعة وبقاء الذكر فيكتب اسمه على ما بنى ولو كان عمله لله عز وجل لاكتفى بعلمه سبحانه وتعالى ولو كلف أن يبني حائطا من غير أن يكتب اسمه عليه لم يفعل ومن هذا الجنس إخراجهم الشمع في رمضان في الأنوار طلبا للسمعة ومساجدهم طوال السنة مظلمة لأن إخراجهم قليلا من دهن كل ليلة لا يؤثر في المدح ما يؤثر في إخراج شمعة في رمضان ولقد كان إغناء الفقراء بثمن الشمع أولى ولربما خرجت [ ص: 383 ] الأضواء الكثيرة السرف الممنوع منه غير أن الرياء يعمل عمله وقد كان أحمد بن حنبل يخرج إلى المسجد وفي يده سراج فيضعه ويصلي ومنهم من إذا تصدق أعطى الفقير والناس يرونه فيجمع بين قصده مدحهم وبين إذلال الفقير وفيهم من يجعل منه الدنانير الخفاف فيكون في الدينار قيراطان ونحو ذلك وربما كانت رديئة فيتصدق بها بين الجمع مكشوفة ليقال قد أعطى فلان فلانا دينارا وبالعكس من هذا كان جماعة الصالحين المتقدمين يجعلون في القرطاس الصغير دينارا ثقيلا يزيد وزنه على دينار ونصف ويسلمونه إلى الفقير في سر فإذا رأى قرطاسا صغيرا ظنه قطعة فإذا لمسه وجد تدوير دينار ففرح فإذا فتحه ظنه قليل الوزن فإذا رآه ثقيلا ظنه يقارب الدينار فإذا وزنه فرآه زائدا على الدينار اشتد فرحة فالثواب يتضاعف للمعطي عند كل مرتبة ومنهم من يتصدق على الأجانب ويترك بر الأقارب وهم أولى وبإسناد عن سليمان بن عامر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الصدقة على المسلمين صدقة والصدقة على ذوي الرحم اثنتان صدقة وصلة" ومنهم من يعلم فضيلة التصدق على القرابة إلا أن يكون بينهما عداوة دنيوية فيمتنع من مواساته مع علمه بفقره ولو واساه كان له أجر الصدقة والقرابة ومجاهدة الهوى وقد روي عن أبي أيوب الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح".

قال المصنف رحمه الله وإنما قبلت هذه الصدقة وفضلت لمخالفة الهوى فإن من تصدق على ذي قرابة بحبه فقد اتفق على هواه ومنهم من يتصدق ويضيق على أهله في النفقة وقد روي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول" وبإسناد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تصدقوا فقال رجل عندي دينار فقال تصدق به على نفسك قال عندي دينار آخر قال تصدق به على زوجتك قال عندي دينار آخر قال تصدق به على ولدك قال عندي دينار آخر قال تصدق به على خادمك قال عندي آخر قال أنت أبصر به" ومنهم من ينفق في الحج ويلبس عليه إبليس بأن الحج قربة وإنما مراده الرياء والفرجة ومدح الناسقال رجل لبشر الحافي أعددت ألفي درهم للحج فقال أحججت قال نعم قال اقض دين [ ص: 384 ] مدين قال ما تميل نفسي إلا إلى الحج قال مرادك أن تركب وتجيء ويقال فلان حاجي ومنهم من ينفق على الأوقات والرقص ويرمي الثياب على المغني ويلبس عليه إبليس بأنك تجمع الفقراء وتطعمهم وقد بينا أن ذلك مما يوجب فساد القلوب ومنهم من إذا جهز ابنته صاغ لها دست الفضة ويرى الأمر في ذلك قربة وربما كانت له ختمة فتقدم مجامر الفضة ويحضر هناك قوم من العلماء فلا هو يستعظم ما فعل ولا هم ينكرون اتباعا للعادة ومنهم من يجوز في وصيته ويحرم الوارث ويرى أنه ماله يتصرف فيه كيف شاء وينسى أنه بالمرض قد تعلقت حقوق الوارثين به وبإسناد عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من خاف عند الوصية قذف في الوباء" والوباء واد في جهنم وعن الأعمش عن خيثمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الشيطان يقول ما غلبني عليه ابن آدم فلن يغلبني على ثلاث آمره بأخذ المال من غير حقه وآمره بإنفاقه في غير حقه ومنعه من حقه".

التالي السابق


الخدمات العلمية