الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (5) قوله تعالى : يثنون : قراءة الجمهور بفتح الياء وسكون الثاء المثلثة ، وهو مضارع ثنى يثني ثنيا ، أي : طوى وزوى ، و " صدورهم " مفعول به والمعنى : " يحرفون صدورهم ووجوههم عن الحق وقبوله " والأصل : يثنيون فأعل بحذف الضمة عن الياء ، ثم تحذف الياء لالتقاء الساكنين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ سعيد بن جبير " يثنون " بضم الياء وهو مضارع أثنى كأكرم .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 285 ] واستشكل الناس هذه القراءة فقال أبو البقاء : " ماضيه أثنى ، ولا يعرف في اللغة ، إلا أن يقال : معناه عرضوها للانثناء ، كما يقال : أبعت الفرس : إذا عرضته للبيع " . وقال صاحب " اللوامح " : " ولا يعرف الإثناء في هذا الباب ، إلا أن يراد بها : وجدتها مثنية ، مثل : أحمدته وأمجدته ، ولعله فتح النون ، وهذا مما فعل بهم فيكون نصب " صدورهم " بنزع الجار ، ويجوز إلى ذلك أن يكون " صدورهم " رفعا على البدل بدل البعض من الكل " . قلت : يعني بقوله : " فلعله فتح النون " ، أي : ولعل ابن جبير قرأ ذلك بفتح نون " يثنون " فيكون مبنيا للمفعول ، وهو معنى قوله " وهذا مما فعل بهم ، أي : وجدوا كذلك ، فعلى هذا يكون " صدورهم " منصوبا بنزع الخافض ، أي : في صدورهم ، أي : يوجد الثني في صدورهم ، ولذلك جوز رفعه على البدل كقولك : " ضرب زيد الظهر " . ومن جوز تعريف التمييز لا يبعد عنده أن ينتصب " صدورهم " على التمييز بهذا التقدير الذي قدره .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن عباس وعلي بن الحسين وابناه زيد ومحمد وابنه جعفر ومجاهد وابن يعمر وعبد الرحمن بن أبزى وأبو الأسود : " تثنونى " مضارع " اثنونى " على وزن افعوعل من الثني كاحلولى من الحلاوة وهو بناء مبالغة ، " صدورهم " بالرفع على الفاعلية ، ونقل عن ابن عباس وابن يعمر ومجاهد وابن أبي إسحاق : " يثنونى صدورهم " بالتاء والياء ، لأن التأنيث مجازي ، فجاز تذكير الفعل باعتبار تأول فاعله بالجمع ، وتأنيثه باعتبار تأويل فاعله بالجماعة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 286 ] وقرأ ابن عباس أيضا وعروة وابن أبزى والأعشى " تثنون " بفتح التاء وسكون الثاء وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون الأخيرة والأصل : تثنونن بوزن تفعوعل وهو الثن وهو ما هش وضعف من الكلأ ، يريد مطاوعة نفوسهم للثني كما يثنى الهش من النبات ، أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم . و " صدورهم " بالرفع على الفاعلية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ مجاهد وعروة أيضا كذلك ، إلا أنهما جعلا مكان الواو المكسورة همزة مكسورة فأخرجاها مثل " تطمئن " . وفيها تخريجان ، أحدهما : أن الواو قلبت همزة لاستثقال الكسرة عليها ، ومثله إعاء وإشاح في وعاء ووشاح ، لما استثقلوا الكسرة على الواو أبدلوها همزة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أن وزنه تفعيل من الثن وهو ما ضعف من النبات كما تقدم ، وذلك أنه مضارع لـ " اثنان " مثل احمار واصفار ، وقد تقدم لك أن من العرب من يقلب مثل هذه الألف همزة كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      2635 - ... ... ... ... ... ... ... ... بالعبيط ادهأمت

                                                                                                                                                                                                                                      فجاء مضارع اثنأن على ذلك كقولك : احمأر يحمئر كاطمأن يطمئن . وأما " صدورهم " فبالرفع على ما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الأعشى أيضا " تثنؤون " بفتح التاء وسكون المثلثة وفتح النون [ ص: 287 ] وهمزة مضمومة وواو ساكنة بزنة تفعلون كترهبون . " صدورهم " بالنصب . قال صاحب " اللوامح " ولا أعرف وجهه لأنه يقال " ثنيت " ولم أسمع " ثنأت " ، ويجوز أنه قلب الياء ألفا على لغة من يقول " أعطات " في أعطيت ، ثم همز الألف على لغة من يقول ( ولا الضألين ) .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن عباس أيضا " تثنوي " بفتح التاء وسكون المثلثة وفتح النون وكسر الواو بعدها ياء ساكنة بزنة ترعوي وهي قراءة مشكلة جدا حتى قال أبو حاتم : " وهذه القراءة غلط لا تتجه " وإنما قال : إنها غلط ؛ لأنه لا معنى للواو في هذا الفعل إذ لا يقال : " ثنوته فانثوى كرعوته ، أي : كففته فارعوى ، أي : فانكف ووزنه افعل كاحمر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ نصر بن عاصم وابن يعمر وابن أبي إسحاق " يثنون " بتقديم النون الساكنة على المثلثة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن عباس أيضا " لتثنون " بلام التأكيد في خبر " إن " وفتح التاء وسكون المثلثة وفتح النون وسكون الواو بعدها نون مكسورة وهي بزنة تفعوعل ، كما تقدم ، إلا أنها حذفت التاء التي هي لام الفعل تخفيفا كقولهم : لا أدر وما أدر . و " صدورهم " فاعل كما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأت طائفة : " تثنؤن " بفتح التاء ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم نون مفتوحة ثم همزة مضمومة ثم نون مشددة ، مثل تقرؤن ، وهو من ثنيت ، إلا أنه قلب الياء واوا لأن الضمة تنافرها ، فجعلت الحركة على مجانسها ، فصار [ ص: 288 ] اللفظ تثنوون ثم قلبت الواو المضمومة همزة كقولهم : " أجوه " في " وجوه " و " أقتت " في " وقتت " فصار " تثنؤون " ، فلما أكد الفعل بنون التوكيد حذفت نون الرفع فالتقى ساكنان : وهما واو الضمير والنون الأولى من نون التوكيد ، فحذفت الواو وبقيت الضمة تدل عليها فصار تثنؤن كما ترى . و " صدورهم " منصوب مفعولا به فهذه إحدى عشرة قراءة بالغت في ضبطها باللفظ وإيضاح تصريفها ؛ لأني رأيتها في الكتب مهملة من الضبط باللفظ وغالب التصريف ، وكأنهم اتكلوا في ذلك على الضبط بالشكل في الكتابة وهذا متعب جدا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله ليستخفوا فيه وجهان ، أحدهما : أن هذه اللام متعلقة بـ " يثنون " وكذا قاله الحوفي ، والمعنى أنهم يفعلون ثني الصدور لهذه العلة .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا المعنى منقول في التفسير ولا كلفة فيه . والثاني : أن اللام متعلقة بمحذوف ، قال الزمخشري : " ليستخفوا منه " يعني ويريدون : ليستخفوا من الله فلا يطلع رسوله والمؤمنين على ازورارهم ، ونظير إضمار " يريدون " لعود المعنى إلى إضماره الإضمار في قوله تعالى : أن اضرب بعصاك البحر فانفلق " معناه : " فضرب فانفلق " قلت : ليس المعنى الذي يقودنا إلى إضمار الفعل هناك كالمعنى هنا ؛ لأن ثم لا بد من حذف معطوف يضطر العقل إلى تقديره ؛ لأنه ليس من لازم الأمر بالضرب انفلاق البحر فلا بد أن يتعقل " فضرب فانفلق " ، وأما في هذه فالاستخفاف علة صالحة لتثنيهم صدورهم فلا اضطرار بنا إلى إضمار الإرادة .

                                                                                                                                                                                                                                      والضمير في " منه " فيه وجهان ، أحدهما : أنه عائد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر على تعلق اللام بـ " يثنون " . والثاني : أنه عائد على الله تعالى كما قال الزمخشري .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 289 ] قوله : ألا حين يستغشون في هذا الظرف وجهان ، أحدهما : أن ناصبه مضمر ، فقدره الزمخشري بـ " يريدون " كما تقدم ، فقال : " ومعنى ألا حين يستغشون ثيابهم : ويريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم أيضا كراهة لاستماع كلام الله كقول نوح عليه السلام جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم ، وقدره أبو البقاء فقال : " ألا حين يستغشون ثيابهم يستخفون " . والثاني : أن الناصب له " يعلم " ، أي : ألا يعلم سرهم وعلنهم حين يفعلون كذا ، وهو معنى واضح ، وكأنهم إنما جوزوا غيره لئلا يلزم تقييد علمه تعالى بسرهم وعلنهم بهذا الوقت الخاص ، وهو تعالى عالم بذلك في كل وقت . وهذا غير لازم ، لأنه إذا علم سرهم وعلنهم في وقت التغشية الذي يخفى فيه السر فأولى في غيره ، وهذا بحسب العادة وإلا فالله تعالى لا يتفاوت علمه . و " ما " يجوز أن تكون " مصدرية " ، وأن تكون بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي : تسرونه وتعلنونه .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية