الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (27) قوله تعالى : وما نراك : يجوز أن تكون قلبية ، وأن تكون بصرية . فعلى الأول تكون الجملة من قوله " اتبعك " في محل نصب مفعولا [ ص: 310 ] ثانيا ، وعلى الثاني في محل نصب على الحال ، و " قد " مقدرة عند من يشترط ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      والأراذل فيه وجهان ، أحدهما : أنه جمع الجمع ، والثاني : جمع فقط . والقائلون بالأول اختلفوا فقيل : جمع لـ " أرذل " ، وأرذل جمع لرذل نحو : كلب وأكلب وأكالب . وقيل : بل جمع لأرذال ، وأرذال جمع لرذل أيضا . والقائلون بأنه ليس جمع جمع ، بل جمع فقط قالوا : هو جمع لأرذل ، وإنما جاز أن يكون جمعا لأرذل لجريانه مجرى الأسماء من حيث إنه هجر موصوفه كالأبطح والأبرق وقال بعضهم : هو جمع أرذل الذي للتفضيل ، وجاء جمعا كما جاء أكابر مجرميها و ( أحاسنكم أخلاقا ) . ويقال : رجل رذل ورذال ، كـ " رخل " و " رخال " وهو المرغوب عنه لرداءته .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : بادي الرأي قرأ أبو عمرو من السبعة وعيسى الثقفي " بادئ " بالهمز ، والباقون بياء صريحة مكان الهمزة . فأما الهمز فمعناه : بادئ الرأي ، أي : أول الرأي بمعنى أنه غير صادر عن روية وتأمل ، بل من أول وهلة . وأما من لم يهمز فيحتمل أن يكون أصله كما تقدم ، ويحتمل أن يكون من بدا يبدو أي ظهر ، والمعنى : ظاهر الرأي دون باطنه ، أي : لو تؤمل لعرف باطنه ، وهو في المعنى كالأول .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي انتصابه على كلتا القراءتين سبعة أوجه ، أحدها : أنه منصوب على الظرف ، وفي العامل فيه على هذا ثلاثة أوجه ، أحدها : " نراك " ، أي : [ ص: 311 ] وما نراك في أول رأينا ، على قراءة أبي عمرو ، أو فيما يظهر لنا من الرأي في قراءة الباقين . والثاني من الأوجه الثلاثة : أن يكون منصوبا بـ " اتبعك " ، أي : ما نراك اتبعك أول رأيهم ، أو ظاهر رأيهم ، وهذا يحتمل معنيين ، أحدهما : أن يريدوا اتبعوك في ظاهر أمرهم ، وبواطنهم ليست معك . والثاني : أنهم اتبعوك بأول نظر ، وبالرأي البادي دون تثبت ، ولو تثبتوا لما اتبعوك . الثالث من الأوجه الثلاثة : أن العامل فيه " أراذلنا " والمعنى : أراذلنا بأول نظر منهم ، أو بظاهر الرأي نعلم ذلك ، أي : إن رذالتهم مكشوفة ظاهرة لكونهم أصحاب حرف دنية .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم القول بكون " بادي " ظرفا يحتاج إلى اعتذار فإنه اسم فاعل وليس بظرف في الأصل ، فقال مكي : " وإنما جاز أن يكون فاعل ظرفا كما جاز ذلك في فعيل نحو : قريب ومليء ، وفاعل وفعيل يتعاقبان كراحم ورحيم ، وعالم وعليم ، وحسن ذلك في فاعل لإضافته إلى الرأي ، والرأي يضاف إليه المصدر ، وينتصب المصدر معه على الظرف نحو : " أما جهد رأي فإنك منطلق " ، أي : في " جهد " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري : " وانتصابه على الظرف ، أصله : وقت حدوث أول أمرهم ، أو وقت حدوث ظاهر رأيهم ، فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه " .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني من السبعة : أن ينتصب على المفعول به ، حذف معه حرف الجر مثل واختار موسى قومه كذا قاله مكي . وفيه نظر من حيث إنه ليس هنا فعل صالح للتعدي إلى اثنين ، إلى ثانيهما بإسقاط الخافض .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث من السبعة : أن ينتصب على المصدر ، ومجيء المصدر على [ ص: 312 ] فاعل أيضا ليس بالقياس ، والعامل في هذا المصدر كالعامل في الظرف كما تقدم ، ويكون من باب ما جاء فيه المصدر من معنى الفعل لا من لفظه ، تقديره : رؤية بدء أو ظهور ، أو اتباع بدء أو ظهور ، أو رذالة بدء أو ظهور .

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع من السبعة : أن يكون نعتا لبشر ، أي : ما نراك إلا بشرا مثلنا بادي الرأي ، أي : ظاهره ، أو مبتدئا فيه . وفيه بعد للفصل بين النعت والمنعوت بالجملة المعطوفة . الخامس : أنه حال من مفعول " اتبعك " ، أي : وأنت مكشوف الرأي ظاهر لا قوة فيه ولا حصافة لك . السادس : أنه منادى والمراد به نوح عليه السلام ، كأنهم قالوا : يا بادي الرأي ، أي : ما في نفسك ظاهر لكل أحد ، قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء به والاستقلال له . السابع : أن العامل فيه مضمر ، تقديره : أتقول ذلك بادي الرأي ، ذكره أبو البقاء ، والأصل عدم الإضمار مع الاستغناء عنه ، وعلى هذه الأوجه الأربعة الأخيرة هو اسم فاعل من غير تأويل ، بخلاف ما تقدم من الأوجه فإنه ظرف أو مصدر .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أنك إذا نصبت " بادي " على الظرف أو المصدر بما قبل " إلا " احتجت إلى جواب عن إشكال وهو أن ما بعد " إلا " لا يكون معمولا لما قبلها ، إلا إن كان مستثنى منه نحو : " ما قام إلا زيدا القوم " أو مستثنى نحو : " قام القوم إلا زيدا " ، أو تابعا للمستثنى منه نحو : " ما جاءني أحد إلا زيد أخير من عمرو " و " بادي الرأي " ليس شيئا من ذلك . وقال مكي : " فلو قلت في [ ص: 313 ] الكلام : " ما أعطيت [أحدا] إلا زيدا درهما] فأوقعت اسمين مفعولين بعد " إلا " لم يجز ؛ لأن الفعل لا يصل بـ " إلا " إلى مفعولين ، إنما يصل إلى اسم واحد كسائر الحروف ، ألا ترى أنك لو قلت : " مررت بزيد عمرو " فأوصلت الفعل إليهما بحرف واحد لم يجز ، ولذلك لو قلت : " استوى الماء والخشبة الحائط " فتنصب اسمين بواو " مع " لم يجز إلا أن تأتي في جميع ذلك بواو العطف فيجوز وصول الفعل " .

                                                                                                                                                                                                                                      والجواب الذي ذكروه هو أن الظروف يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها . وهذا جماع القول في هذه المسألة باختصار .

                                                                                                                                                                                                                                      والرأي : يجوز أن يكون من رؤية العين أو من الفكرة والتأمل . وقوله بينة من ربي " من ربي " نعت لـ " بينة " ، أي : بينة من بينات ربي .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية