الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (57) قوله تعالى : ملجأ أو مغارات : الملجأ : الحصن . وقيل : المهرب . وقيل : الحرز وهو مفعل من لجأ إليه يلجأ ، أي : انحاز يقال : ألجأته إلى كذا ، أي : اضطررته إليه فالتجأ . والملجأ يصلح للمصدر والزمان والمكان ، والظاهر منها هنا المكان . والمغارات جمع مغارة وهي مفعلة من غار يغور فهي كالغار في المعنى . وقيل : المغارة : السرب في الأرض كنفق اليربوع . والغار النقب في الجبل .

                                                                                                                                                                                                                                      والجمهور على فتح ميم " مغارات " وقرأ عبد الرحمن بن عوف مغارات بالضم وهو من أغار وأغار يكون لازما ، تقول العرب : أغار بمعنى غار ، أي : دخل ، ويكون متعديا تقول : أغرت زيدا ، أي : أدخلته في الغار ، فعلى هذا يكون من أغار المتعدي ، والمفعول محذوف ، أي : أماكن يغيرون فيها أنفسهم ، أي : يغيبونها .

                                                                                                                                                                                                                                      والمدخل : مفتعل من الدخول وهو بناء مبالغة في هذا المعنى ، والأصل [ ص: 69 ] مدتخل فأدغمت الدال في تاء الافتعال كادان من الدين . وقرأ قتادة وعيسى بن عمر والأعمش مدخلا بتشديد الدال والخاء معا . وتوجيهها أن الأصل : متدخلا من تدخل بالتضعيف ، فلما أدغمت التاء في الدال صار اللفظ مدخلا نحو مدين من تدين . وقرأ الحسن أيضا ومسلمة بن محارب وابن أبي إسحاق وابن محيصن وابن كثير في رواية " مدخلا " بفتح الميم وسكون الدال وفتح الخاء خفيفة من دخل . وقرأ الحسن في رواية محبوب كذلك إلا أنه ضم الميم جعله من أدخل .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا من أبرع العلم : ذكر أولا الأمر الأعم وهو الملجأ من أي نوع كان ، ثم ذكر الغيران التي يختفى فيها في أعلى الأماكن وفي الجبال ، ثم الأماكن التي يختفى فيها في الأماكن السافلة وهي السروب وهي التي عبر عنها بالمدخل .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج : " يصح أن تكون المغارات من قولهم : حبل مغار ، أي : محكم الفتل ، ثم يستعار ذلك في الأمر المحكم المبرم فيجيء التأويل على هذا : لو يجدون نصرة أو أمورا مسددة مرتبطة تعصمهم منكم . وجعل المدخل أيضا قوما يدخلون في جملتهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبي مندخلا بالنون بعد الميم من اندخل قال :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 70 ]

                                                                                                                                                                                                                                      2501 - ... ... ... ... ولا يدي في حميت السمن تندخل

                                                                                                                                                                                                                                      وأنكر أبو حاتم هذه القراءة عنه ، وقال : " إنما هي بالتاء " . قلت: وهو معذور لأن انفعل قاصر لا يتعدى فكيف بني منه اسم مفعول ؟

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الأشهب العقيلي : " لوالوا " ، أي : بايعوا وأسرعوا ، وكذلك رواها ابن أبي عبيدة بن معاوية بن نوفل عن أبيه عن جده- وكانت له صحبة- من الموالاة . وهذا مما جاء فيه فعل وفاعل بمعنى نحو : ضعفته وضاعفته . قال سعيد بن مسلم أظنها " لوألوا " بهمزة مفتوحة بعد الواو من وأل ، أي : التجأ ، وهذه القراءة نقلها الزمخشري وفسرها بما تقدم من الالتجاء :

                                                                                                                                                                                                                                      والجموح : النفور بإسراع ومنه فرس جموح إذا لم يرده لجام قال :


                                                                                                                                                                                                                                      2502 - جموحا مروحا وإحضارها     كمعمعة السعف الموقد

                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر :


                                                                                                                                                                                                                                      2503 - إذا جمحت نساؤكم إليه     أشظ كأنه مسد مغار



                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر :


                                                                                                                                                                                                                                      2504 - وقد جمحت جماحا في دمائهم     حتى رأيت ذوي أحسابهم جهزوا

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 71 ] وقرأ أنس بن مالك والأعمش " يجمزون " ، قال ابن عطية : " يهرولون في مشيهم " . قيل : يجمزون ويجمحون ويشتدون بمعنى " . وفي الحديث : " فلما أذلقته الحجارة جمز " ، وقال رؤبة :


                                                                                                                                                                                                                                      2505 - إما تريني اليوم أم حمز     قاربت بين عنقي وجمزي



                                                                                                                                                                                                                                      وهذا أصله في اللغة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : إليه ، عاد الضمير إلى الملجأ أو على المدخل ؛ لأن العطف بـ " أو " ، ويجوز أن يعود على " المغارات " لتأويلها بمذكر .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : من يلمزك قرأ العامة " يلمزك " بكسر الميم من لمزه يلمزه ، أي : عابه ، وأصله الإشارة بالعين ونحوها . قال الأزهري : " أصله الدفع ، لمزته : دفعته " ، وقال الليث : " هو الغمز في الوجه ومنه همزة لمزة ، أي : كثير هذين الفعلين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ يعقوب وحماد بن سلمة عن ابن كثير والحسن وأبو رجاء- ورويت عن أبي عمرو- بضمها وهما لغتان في المضارع . وقرأ الأعمش يلمزك من ألمز رباعيا . وروى حماد بن سلمة : " يلامزك " على المفاعلة من واحد كسافر وعاقب .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم الكلام على " إذا " الفجائية مرارا والعامل فيها : قال أبو البقاء : " يسخطون " لأنه قال : إنها ظرف مكان ، وفيه نظر تقدم في نظيره .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية