الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 501 ] آ . (43) قوله تعالى : سمان : صفة لبقرات وهو جمع سمينة ، ويجمع سمين أيضا عليه يقال : رجال سمان كما يقال نساء كرام ورجال كرام . و " السمن " مصدر سمن يسمن فهو سمين فالمصدر واسم [الفاعل] جاءا على غير قياس ، إذ قياسهما " سمن " بفتح الميم ، فهو سمن بكسرها ، نحو فرح فرحا فهو فرح .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزمخشري : " هل من فرق بين إيقاع " سمان " صفة للمميز وهو " بقرات " دون المميز وهو " سبع " ، وأن يقال : سبع بقرات سمانا ؟ قلت : إذا أوقعتها صفة ل " بقرات " فقد قصدت إلى أن تميز السبع بنوع من البقرات وهو السمان منهن لا بجنسهن ، ولو وصفت بها السبع لقصدت إلى تمييز السبع بجنس البقرات لا بنوع منها ، ثم رجعت فوصفت المميز بالجنس بالسمن . فإن قلت : هلا قيل " سبع عجاف " على الإضافة . قلت : التمييز موضوع لبيان الجنس ، والعجاف وصف لا يقع البيان به وحده . فإن قلت فقد يقولون : ثلاثة فرسان وخمسة أصحاب . قلت : الفارس والصاحب والراكب ونحوها صفات جرت مجرى الأسماء فأخذت حكمها ، وجاز فيها ما لم يجز في غيرها . ألا تراك لا تقول : عندي ثلاثة ضخام ولا أربعة غلاظ . فإن قلت : ذاك مما يشكل وما نحن بسبيله لا إشكال فيه ألا ترى أنه لم يقل " وبقرات سبع عجاف " لوقوع العلم بأن المراد البقرات . قلت : ترك الأصل لا يجوز مع وقوع الاستغناء عما ليس بأصل ، وقد وقع الاستغناء عن قولك " سبع عجاف " عما تقترحه من التمييز بالوصف " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 502 ] قلت : وهي أسئلة وأجوبة حسنة . وتحقيق السؤال الأول وجوابه : أنه يلزم من وصف التمييز بشيء وصف المميز به ، ولا يلزم من وصف المميز وصف التمييز بذلك الشيء ، بيانه أنك إذا قلت : " عندي أربعة رجال حسان " بالجر كان معناه : أربعة من الرجال الحسان ، فيلزم حسن الأربعة ؛ لأنهم بعض الرجال الحسان ، وإذا قلت : " عندي أربعة رجال حسان " برفع " حسان " كان معناه : أربعة من الرجال حسان ، وليس فيه دلالة على وصف الرجال بالحسن .

                                                                                                                                                                                                                                      وتحقيق الثاني وجوابه : أن أسماء العدد لا تضاف إلى الأوصاف إلا في ضرورة ، وإنما يجاء بها تابعة لأسماء العدد فيقال : " عندي ثلاثة قرشيون " ولا يقال : ثلاثة قرشيين بالإضافة إلا في شعر . ثم اعترض بثلاثة فرسان وأجاب بجريان ذلك مجرى الأسماء .

                                                                                                                                                                                                                                      وتحقيق الثالث : أنه إنما امتنع " ثلاثة ضخام " ونحوه لأنه لا يعلم موصوفه ، بخلاف الآية الكريمة فإن الموصوف معلوم ولذلك لم يصرح به . وأجاب عن ذلك بأن الأصل عدم إضافة العدد إلى الصفة كما تقدم فلا يترك هذا الأصل مع الاستغناء بالفرع ، وعلى الجملة ففي هذه العبارة قلق هذا ملخصها ، ولم يذكر الشيخ نصه ولا اعترض عليه ، بل لخص بعض معانيه وتركه على إشكاله .

                                                                                                                                                                                                                                      وجمع عجفاء على عجاف . والقياس : عجف نحو : حمراء وحمر ، حملا له على " سمان " لأنه نقيضه ، ومن دأبهم حمل النظير على النظير والنقيض على النقيض ، قاله الزمخشري : " والعجف شدة الهزال الذي ليس بعده قال : [ ص: 503 ]

                                                                                                                                                                                                                                      2794 - عمرو الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الراغب : " هو من قولهم نصل أعجف ، أي : دقيق ، وعجفت نفسي عن الطعام ، وعن فلان إذا نبت عنهما ، وأعجف الرجل ، أي : صادف ماشيته عجافا " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وأخر " أخر " نسق على " سبع " لا على " سنبلات " ، ويكون قد حذف اسم العدد من قوله " وأخر يابسات " والتقدير : وسبعا أخر ، وإنما حذف لأن التقسيم في البقرات يقتضي التقسيم في السنبلات .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزمخشري : " فإن قلت : هل في الآية دليل على أن السنبلات اليابسة كانت سبعا كالخضر ؟ قلت : الكلام مبني على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان والعجاف والسنبلات الخضر ، فوجب أن يتناول معنى الأخر السبع ، ويكون قوله " وأخر يابسات " بمعنى وسبعا أخر " انتهى . وإنما لم يجز عطف " أخر " على التمييز وهو " سنبلات " فيكون " أخر " مجرورا لا منصوبا ؛ لأنه من حيث العطف عليه يكون من جملة مميز " سبع " ، ومن جهة كونه آخر يكون مبانيا لـ " سبع " فتدافعا ، ولو كان تركيب الآية الكريمة : " سبع سنبلات خضر ويابسات " لصح العطف ، ويكون من توزيع السنبلات إلى هذين الوصفين أعني الاخضرار واليبس .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أوضح الزمخشري هذا حيث قال : " فإن قلت : هل يجوز أن يعطف قوله " وأخر يابسات " على " سنبلات خضر " فيكون مجرور المحل ؟ قلت : يؤدي إلى تدافع ، وهو أن عطفها على " سنبلات خضر " يقتضي أن [ ص: 504 ] يكون داخلا في حكمها ، فتكون معها مميزا للسبع المذكور ، ولفظ الأخر يقتضي أن تكون غير السبع . بيانه أنك تقول : " عنده سبعة رجال قيام وقعود بالجر ؛ فيصح لأنك ميزت السبعة برجال موصوفين بالقيام والقعود ، على أن بعضهم قيام وبعضهم قعود ، فلو قلت : " عنده سبعة رجال قيام وآخرين قعود " تدافع ففسد " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله للرؤيا : فيه أربعة أوجه ، أحدها : أن اللام فيه مزيدة فلا تعلق لها بشيء ، وزيدت لتقدم المعمول مقوية للعامل ، كما زيدت فيه إذا كان العامل فرعا كقوله : فعال لما يريد ، ولا تزاد فيما عدا ذينك إلا ضرورة كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      2795 - فلما أن تواقفنا قليلا     أنخنا للكلاكل فارتمينا

                                                                                                                                                                                                                                      يريد : أنخنا الكلاكل ، فزيدت مع فقدان الشرطين ، هكذا عبارة بعضهم يقول إلا في ضرورة ، وبعضهم يقول : الأكثر ألا تزاد ، ويتحرز من قوله تعالى ردف لكم فإن الأصل : ردفكم فزيدت فيه اللام ، ولا تقدم ولا فرعية ، ومن أطلق ذلك جعل الآية من باب التضمين ، وسيأتي في مكانه ، وقد تقدم لك من هذا طرف جيد في تضاعيف هذا التصنيف .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أن يضمن " تعبرون " معنى ما يتعدى باللام ، تقديره : إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : أن يكون " للرؤيا " هو خبر " كنتم " كما تقول : " كان فلان لهذا الأمر " إذا كان مستقلا به متمكنا منه ، وعلى هذا فيكون في " تعبرون " وجهان ، [ ص: 505 ] أحدهما : أنه خبر ثان لـ " كنتم " والثاني : أنه حال من الضمير المرتفع بالجار لوقوعه خبرا .

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع : أن تتعلق اللام بمحذوف على أنها للبيان كقوله تعالى : وكانوا فيه من الزاهدين تقديره : أعني فيه ، وكذلك هذا ، تقديره : أعني للرؤيا ، وعلى هذا فيكون مفعول " تعبرون " محذوفا تقديره : تعبرونها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو جعفر " الرؤيا " وبابها " الريا " بالإدغام ، وذلك أنه قلب الهمزة واوا لسكونها بعد ضمة فاجتمعت ياء وواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء . وهذه القراءة عندهم ضعيفة ؛ لأن البدل غير لازم فكأنه لم توجد واو نظرا إلى الهمزة .

                                                                                                                                                                                                                                      وعبرت الرؤيا بالتخفيف قال الزمخشري : " هو الذي اعتمده الأثبات ، ورأيتهم ينكرون " عبرت " بالتشديد والتعبير والمعبر " قال : " وقد عثرت على بيت أنشده المبرد في كتاب " الكامل " لبعض الأعراب :


                                                                                                                                                                                                                                      2796 - رأيت رؤيا ثم عبرتها     وكنت للأحلام عبارا

                                                                                                                                                                                                                                      قال : " وحقيقة عبرت الرؤيا : ذكرت عاقبتها وآخر أمرها كما تقول : عبرت النهر إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه " .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية