الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فالدنيا قليلها وكثيرها حرامها وحلالها ، ملعونة إلا ما أعان على تقوى الله فإن ذلك القدر ليس من الدنيا وكل من كانت معرفته أقوى وأتقن كان حذره من نعيم الدنيا أشد ; حتى أن عيسى عليه السلام وضع رأسه على حجر لما نام ، ثم رماه ; إذ تمثل له إبليس ، وقال : رغبت في الدنيا وحتى أن سليمان عليه السلام في ملكه كان يطعم الناس لذائذ الأطعمة ، وهو يأكل خبز الشعير فجعل الملك على نفسه بهذا الطريق امتهانا وشدة ، فإن الصبر على لذائذ الأطعمة مع القدرة عليها ، ووجودها أشد ; ولهذا روي أن الله تعالى زوى الدنيا عن نبينا صلى الله عليه وسلم فكان يطوي أياما .

وكان يشد الحجر على بطنه من الجوع .

ولهذا سلط الله البلاء والمحن على الأنبياء والأولياء ، ثم الأمثل فالأمثل كل ذلك نظرا لهم وامتنانا ، عليهم ; ليتوفر من الآخرة حظهم ، كما يمنع الوالد الشفيق ولده لذة الفواكه ويلزمه ، ألم الفصد ، والحجامة شفقة عليه ، وحبا له لا بخلا عليه وقد عرفت بهذا أن كل ما ليس لله ، فهو من الدنيا ، وما هو لله فذلك ليس من الدنيا .

فإن قلت : فما الذي هو لله ? فأقول : الأشياء ثلاثة أقسام ; منها ما لا يتصور أن يكون لله ، وهو الذي يعبر عنه بالمعاصي ، والمحظورات ، وأنواع التنعمات في المباحات ، وهي الدنيا المحضة المذمومة ، فهي الدنيا ، صورة ومعنى .

التالي السابق


(فالدنيا - قليلها وكثيرها، حلالها وحرامها - ملعونة) ، أي: مبعدة من الله تعالى إلا ما أعان على تقوى الله، فإن ذلك القدر ليس من الدنيا (وكل من كانت معرفته) بالله (أقوى وأيقن) ، أي: أكثر يقينا، وفي بعض النسخ: وأتقن، أي: أثبت، وأرسخ (كان حذره من نعيم الدنيا أشد; حتى أن عيسى - عليه السلام - وضع رأسه على حجر لما نام، ثم رماه; إذ تمثل له إبليس، وقال: رغبت في الدنيا) نقله صاحب القوت .

(وحتى أن سليمان - عليه السلام - في ملكه كان يطعم الناس لذائذ الأطعمة، وهو يأكل خبز الشعير) ، وكذا روي عن يوسف - عليه السلام - أنه كان يطعم الناس في المجاعة لذائذ الأطعمة، وهو يجوع ويأكل خبز الشعير، فقيل له في ذلك، فقال: أخشى أن أنسى الجياع (فجعل الملك على نفسه بهذا الطريق امتحانا وشدة، فإن الصبر عن لذائذ الأطعمة مع القدرة عليها، ووجودها) عنده (أشد; ولهذا زوى الله تعالى الدنيا عن نبينا صلى الله عليه وسلم) .

قال العراقي: رواه محمد بن خفيف في شرف الفقراء من حديث عمر بن الخطاب، قال: قلت: يا رسول الله، عجبا لمن بسط الله لهم الرزق، وزواها عنك... الحديث، وهو من طريق ابن إسحاق معنعنا. انتهى .

قلت: وفي خطبة علي - رضي الله عنه -: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدلك على مساوي الدنيا، وعيوبها; إذ جاع فيها مع خاصته، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته (فكان يطوي أياما) .

قال العراقي: رواه الترمذي، وابن ماجه من حديث ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيت الليالي المتتابعة طاويا وأهله... الحديث .

قال الترمذي: حسن صحيح (وكان يشد الحجر على بطنه من الجوع) تقدم .

(ولهذا سلط الله البلاء والمحن على الأنبياء والأولياء، ثم الأمثل فالأمثل) روى أحمد، والبخاري، والترمذي، وابن ماجه من حديث سعد: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل... الحديث، وروى الطبراني في الكبير من حديث أخت حذيفة: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل.

وروى ابن ماجه، وأبو يعلى، والحاكم من حديث أبي سعيد: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون .

لقد كان أحدهم يبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحويها فيلبسها، ويبتلى بالقمل حتى يقتله، ولأحدهم كان أشد فرحا بالبلاء من أحدكم بالعطاء
(كل ذلك نظرا لهم، وإمنانا عليهم; ليتوفر من الآخرة حظهم، كما يمنع الوالد الشفيق ولده لذة الفواكه، ويلزمه ألم الفصد، والحجامة شفقة عليه، وحبا له لا بخلا عليه) ; وذلك لأن نظر الوالد في حقه أتم فيما يؤول إليه من النفع، ونظر الولد قاصر على اللذة العاجلة .

(وقد عرفت بهذا أن كل ما ليس لله، فهو من الدنيا، وما هو لله فذلك ليس من الدنيا، فإن قلت: فما الذي هو لله؟ فأقول: الأشياء ثلاثة أقسام; منها ما لا يتصور أن يكون لله، وهو الذي يعبر عنه بالمعاصي، والمحظورات، وأنواع التنعمات في المباحات، وهي الدنيا المحضة المذمومة، فهي الدنيا، صورة ومعنى) أما صورة فظاهر، وأما معنى، فإن هذه لا يتقرب بها إلى الله تعالى، بل هي تبعد عن ساحات رحمته، فليس لها تعلق بالآخرة أصلا .




الخدمات العلمية