الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفن الثاني في التعرض لأسباب الادخار فمن حصل له مال بإرث أو كسب أو سؤال أو سبب من الأسباب فله في الادخار ثلاثة أحوال : الأولى أن يأخذ قدر حاجته في الوقت ، فيأكل إن كان جائعا ويلبس إن كان عاريا ، ويشتري مسكنا مختصرا إن كان محتاجا ويفرق الباقي في الحال ولا يأخذه ولا يدخره إلا بالقدر الذي يدرك به من يستحقه ، ويحتاج إليه فيدخره على هذه النية فهذا هو الوفي بموجب التوكل ؛ تحقيقا ، وهي الدرجة العليا الحالة الثانية المقابلة لهذه المخرجة له عن حدود التوكل أن يدخر لسنة فما فوقها ، فهذا ليس من المتوكلين أصلا وقد قيل : لا يدخر من الحيوانات إلا ثلاثة الفأرة : والنملة وابن آدم الحالة الثالثة : أن يدخر لأربعين يوما فما دونها ، فهذا هل يوجب حرمانه من المقام المحمود الموعود في الآخرة للمتوكلين ؟ اختلفوا فيه فذهب سهل إلى أنه يخرج عن حد التوكل .

وذهب الخواص إلى أنه لا يخرج بأربعين يوما ، ويخرج بما يزيد على الأربعين .

وقال أبو طالب المكي لا يخرج عن حد التوكل بالزيادة على الأربعين أيضا وهذا اختلاف لا معنى له بعد تجويز أصل الادخار ، نعم يجوز أن يظن ظان أن أصل الادخار يناقض التوكل ، فأما التقدير بعد ذلك فلا مدرك له .

التالي السابق


* (الفن الثاني) *

(في التعرض للأسباب بالادخار) اعلم أن للمتوكلين أدبا، ولهم علامات تدل على صحة توكلهم، فأول ذلك الاقتصار والإجمال في الطلب، وأن لا يدخل في الأسباب المظنونة إلا للحاجة الغريبة، وإن تباعد عن الأسباب التي تتطرق إليها الشبه بكل حال، وأن لا يدخر، وقد أشار المصنف إلى حكم الادخار، فقال: (فمن حصل له مال بإرث) من موروثه شرعا، (أو كسب) بشروطه (أو سؤال) بعد الاضطرار والإباحة له فيه، (أو سبب من الأسباب) غير ما ذكر (فله في الادخار ثلاثة أحوال: الأولى أن يأخذ قدر حاجته في الوقت، فيأكل إن كان جائعا ويلبس إن كان عاريا، ويشتري مسكنا مختصرا) قدر ما يسعه (إن كان محتاجا) لكل ذلك (ويفرق الباقي في الحال) على من يرى له الاستحقاق (ولا يأخذه ولا يدخره إلا بالقدر الذي يدرك به من يستحقه، ويحتاج إليه فيدخره على هذه النسبة) لا غير، (فهذا هو الوفاء بموجب التوكل؛ تحقيقا، وهي الدرجة العليا) .

قال صاحب القوت: ولا يضر الادخار مع صحة التوكل إذا كان مدخرا لله -عز وجل- وفيه: كان ماله موقوفا على رضا مولاه، مؤخرا لحظوظ نفسه وهواه، فإذا رأى تلك الحقوق التي أوجبها الله عليه بذل ماله فيها، والقيام [ ص: 501 ] بحقوق الله، لا ينقص مقامات العبد، بل يزيدها علوا .

(الحالة الثانية) هي (المقابلة لهذه المخرجة له من حدود التوكل أن يدخر لسنة فما فوقها، فهذا ليس من المتوكلين أصلا) وظاهره أن الادخار فوق السنة يبطل التوكل، وقال الكمال محمد بن إسحاق: والذي أراه أن يبطل كماله لا أصله، (وقد قيل: لا يدخر من الحيوانات إلا ثلاثة: الفارة والنملة وابن آدم) نقله صاحب القوت .

(الحالة الثالثة: أن يدخر لأربعين يوما فما دونها، فهذا هل يوجب حرمانه من المقام المحمود الموعود) في الآخرة (للمتوكلين؟ اختلفوا فيه وذهب) أبو محمد (سهل) بن عبد الله (التستري) -رحمه الله تعالى- (إلى أنه يخرج عن حد التوكل) ، ولفظ القوت: ويخرجه الادخار من حقيقة التوكل عند أبي محمد، (وذهب) إبراهيم بن أحمد (الخواص) -رحمه الله تعالى- (إلى أنه لا يخرج بأربعين يوما، ويخرج بما يزيد على الأربعين) حكاه هكذا في كتاب التوكل .

(وقال أبو طالب المكي) -رحمه الله تعالى- في القوت (لا يخرج عن حد التوكل بالزيادة على الأربعين أيضا) ، وهذا لفظه في القوت، وقد يصح التوكل مع تأميل البقاء، فإن كان أمله للحياة لطاعة مولاه وخدمته، والجهاد في سبيله، وليستعتب ويستقبل ويصلح بالطاعة والعلم ما أفسد بالهوى والجهل فيضل بذلك، وهذا طريق طائفة من الراجين والمؤانسين والمحبين، وحسني الظن، وإن كان أمله للحياة لأجل متعة نفسه، وأخذ حظوظها من دنياه نقص ذلك من زهده في الدنيا، فسرى النقص إلى توكله، وما نقص من الزهد نقص من التوكل، وليس ما زاد في الزهد يزيد في التوكل، فإذا جاز للمتوكل تأميله البقاء لشهر أو شهرين جاز له الادخار لذلك، إلا أن طول الأمل يخرج من حقيقة التوكل، وتأميل أكثر من أربعين يوما يخرج من حد التوكل عند الخواص، ولا يخرجه من حده عندي، وأكره للمتوكل الادخار أكثر من أربعين يوما، كما يكره تأميل البقاء لأكثر من أربعين يوما، ومن ادخر لصلاح قلبه، وتسكين نفسه، وقطع تشرفه إلى الناس إن كان مقامه السكون مع المعلوم، فالادخار له أفضل، ويخرجه الادخار من حقيقة التوكل عند أبي محمد، والخواص ولا يخليه عندي من حال فيه، ومن قوي يقينه، وحسن ظنه وصبره، وصح زهده فترك الادخار له أفضل اهـ .

(وهذا اختلاف لا معنى له بعد تجويز أصل الادخار، نعم يجوز أن يظن ظان أن أصل الادخار يناقض التوكل، فأما التقدير بعد ذلك فلا مدرك له) ، وربما يفهم من سياق عبارة القوت أن سهلا -رحمه الله تعالى- يقول: إن أصل الادخار يناقض التوكل، فقد روي عنه أنه قال: علامة التوكل لا يسأل ولا يرد ولا يحتكر، ورواه القشيري بسنده إلى أبي علي الروذباري قال: قلت لعمرو بن سنان: احك لي عن سهل بن عبد الله حكاية فقال: إنه قال... فذكره إلا أنه قال: ولا يحبس بدل قوله: لا يحتكر .




الخدمات العلمية