الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر النوع الثاني الخارج عن الجسد المختلف في وجوب [ الطهارة منه ]

                                                                                                                                                                              ذكر [ الطهارة من ] دم الاستحاضة

                                                                                                                                                                              افترق أهل العلم فيما يجب على المستحاضة من الطهارة خمس فرق، فقالت فرقة: تتوضأ لكل صلاة، روينا هذا القول عن علي بن أبي طالب، وابن عباس، وعائشة، وعروة.

                                                                                                                                                                              50 - حدثنا إسحاق، أنا عبد الرزاق، نا معمر وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، قال: "إذا رأت المرأة ما يريبها بعد الطهر مثل غسالة اللحم، أو مثل غسالة السمك، أو مثل قطرة الدم (من) الرعاف، فإنما تلك ركضة من ركضات الشيطان في الرحم، فلتنضح بالماء، ولتتوضأ ولتصل" .

                                                                                                                                                                              [ ص: 265 ]

                                                                                                                                                                              51 - حدثنا علي بن عبد العزيز، نا أبو عبيد، نا هاشم بن القاسم، عن شعبة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس، سئل عن الاستحاضة، فقال: "إنما هو عرق عائد، أو ركضة من الشيطان، فلتدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتوضأ لكل صلاة" ، قيل وإن سال؟ قال: "وإن سال مثل هذا المثعب" .

                                                                                                                                                                              52 - وحدثنا علي بن الحسن، نا عبد الله، عن سفيان، عن بيان، عن الشعبي، عن قمير، عن عائشة، قالت: المستحاضة تجلس أيام أقرائها، ثم تغتسل غسلا واحدا، وتتوضأ لكل صلاة .

                                                                                                                                                                              [ ص: 266 ] وبه قال مالك وأصحابه عبد الملك بن الماجشون، ومحمد بن سلمة، وأبو مصعب، وهكذا قال الثوري فيمن تبعه من أهل العراق، وحكي ذلك عن ابن المبارك، وعبد الرحمن بن مهدي، وكذلك قال الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، غير أن أحمد وإسحاق اختارا لها أن تغتسل لكل صلاة، فإن لم تفعل جمعت بين الصلاتين بغسل، فإن لم تفعل، وتوضأت لكل صلاة أجزأتها.

                                                                                                                                                                              وقالت فرقة: تغتسل لكل يوم غسلا واحدا. وقال بعضهم: وتتوضأ لكل صلاة، روينا عن عائشة رواية ثانية أنها قالت: تغتسل لكل يوم غسلا وتصلي. وقال ابن المسيب: تغتسل من ظهر إلى ظهر، وتتوضأ لكل صلاة.

                                                                                                                                                                              [ ص: 267 ] وكذلك قال الحسن البصري، وقال الشعبي: إذا اغتسلت كل يوم غسلا أجزأها.

                                                                                                                                                                              53 - حدثنا خشنام بن إسماعيل، نا محمد بن يحيى، نا وهب بن جرير، عن شعبة، عن داود، وعاصم، عن الشعبي، عن قمير امرأة مسروق، عن عائشة، أنها قالت في المستحاضة: تمسك عن الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل لكل يوم غسلا وتصلي.

                                                                                                                                                                              وقالت فرقة ثالثة: تغتسل لكل صلاة، روي هذا القول عن علي، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير.

                                                                                                                                                                              54 - حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أن سعيد بن [ جبير ] ، أخبره قال: " أرسلت امرأة مستحاضة إلى ابن الزبير غلاما لها - أو مولى لها - أني مبتلاة لم أصل منذ كذا وكذا - حسبت أنه قال: منذ سنتين - وإني أنشدك الله إلا ما بينت لي في ديني، قال: وكتبت إليه أني أفتيت أن أغتسل لكل صلاة. فقال ابن الزبير: ما أجد لها إلا ذلك. ثم جاء ابن عمر وابن عباس فقالا: ما نجد لها إلا ذلك " .

                                                                                                                                                                              55 - حدثنا علي بن الحسن، نا عبد الله، عن سفيان، عن عبد الله بن [ ص: 268 ] مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن امرأة، جاءت فقالت: إني استحضت منذ كذا وكذا، وقد حدثت أن عليا قال: تغتسل لكل صلاة. فقال ابن عباس: ما أجد لها إلا ما قال علي.

                                                                                                                                                                              وقالت فرقة رابعة: تجمع بين الظهر والعصر بغسل واحد، وتجمع بين المغرب والعشاء بغسل واحد، وتغتسل للفجر غسلا، روي هذا القول، عن ابن عباس وهي الرواية الثالثة عنه.

                                                                                                                                                                              56 - حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير: أن امرأة من أهل الكوفة كتبت إلى ابن عباس كتابا، فإذا في الكتاب: إني امرأة أصابني بلاء [ وضر ] وإني أدع الصلاة الزمان الطويل، وإن علي بن أبي طالب سئل عن ذلك، فأفتاني أن أغتسل عند كل صلاة، قال: فقال ابن عباس: اللهم لا أجد لها إلا ما قال علي، غير أنها تجمع بين الظهر والعصر بغسل واحد، والمغرب والعشاء بغسل واحد، وتغتسل للفجر غسلا واحدا .

                                                                                                                                                                              وبه قال عطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي، وكان الأوزاعي [ ص: 269 ] يعجبه هذا القول، فإن أخبرته أنها لا تقوى على ذلك، أمرها أن تغتسل من ظهر إلى ظهر، وتتوضأ لكل صلاة.

                                                                                                                                                                              وقد حكي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قول خامس: (وهو) أن لا وضوء على المستحاضة لكل صلاة إلا أن يصيبها حدث بعد وضوءها من بول أو ريح أو ما أشبه ذلك مما ينقض الوضوء.

                                                                                                                                                                              وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أخبار يوافق كل خبر منها قولا من هذه الأقاويل، غير قول ربيعة، وقد تكلم في أسانيدها.

                                                                                                                                                                              والنظر دال على ما قال ربيعة، إلا أنه قول لا أعلم أحدا سبقه إليه، وإنما قلت النظر يدل عليه، لأنه لا فرق بين الدم الذي يخرج من المستحاضة قبل الوضوء، والذي يخرج في أضعاف الوضوء، والدم الخارج بعد الوضوء؛ لأن دم المستحاضة إن كان يوجب الوضوء، فقليل ذلك وكثيره - في أي وقت كان - يوجب الوضوء، فإذا كان هكذا وابتدأت المستحاضة في الوضوء فخرج منها دم بعد غسلها [ بعض ] أعضاء الوضوء، وجب أن ينتقض ما غسلت من أعضاء الوضوء؛ لأن الدم الذي يوجب الطهارة في قول من أوجب على المستحاضة الطهارة [ ص: 270 ] قائم، وإن كان ما يخرج منها بين أضعاف الوضوء، وما خرج منها قبل أن تدخل الصلاة، وما حدث في الصلاة منه [ لا ينقض طهارة وجب كذلك أن ما خرج منها بعد فراغها من الصلاة ] لا ينقض طهارة إلا بحدث غير دم الاستحاضة، هذا الذي يدل عليه النظر، ومع أنا قد روينا عن مالك أنه استحب لمن به سلس البول أن يتوضأ لكل صلاة إلا أن يكون البرد يؤذيه، فإذا آذاه قال: رجوت أن لا يكون عليه الضيق في ترك الوضوء.

                                                                                                                                                                              وقد زعم يعقوب أن القياس في الجرح السائل، والمستحاضة أن لا تتوضأ، قال: ولكنا تركنا القياس للأثر، وقد ذكرت في المختصر الذي اختصرت هذا الكتاب منه الآثار التي رويت في هذا الباب وعللها، فمن أراد [ أخذ ] معرفة ذلك نظر في ذلك الكتاب - إن شاء الله.

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية