الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر النهي عن استقبال القبلة واستدبارها بالغائط والبول

                                                                                                                                                                              ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها ببول ولا غائط، ولكن شرقوا، أو غربوا" .

                                                                                                                                                                              [ ص: 440 ]

                                                                                                                                                                              257 - أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، ومحمد بن الصباح، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها، ولكن ليشرق، أو ليغرب" ، قال أبو أيوب: فلما قدمنا الشام وجدنا مراحيض قد جعلت نحو القبلة، فننحرف ونستغفر الله.

                                                                                                                                                                              حدثنا علي، عن أبي عبيد، في قوله مراحيض، واحدها مرحاض، وهي المذاهب أيضا، وفي حديث آخر، مرافق يعني الكنف، ومن حديث المغيرة: نزل وأبعد في المذهب، كل هذا كناية عن موضع الغائط.

                                                                                                                                                                              258 - حدثنا محمد بن عبد الله، أنا ابن وهب، أخبرني مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن رافع بن إسحاق، أنه سمع أبا أيوب، يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا ذهب أحدكم الغائط أو البول، فلا يستقبل القبلة بفرجه ولا يستدبرها.

                                                                                                                                                                              [ ص: 441 ] قال أبو بكر: وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب، فقالت: طائفة بظاهر هذه الأخبار، قالت: لا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها بغائط ولا بول في البراري والمنازل، هذا قول الثوري، وقال أحمد: يعجبني أن يتوقى [ في ] الصحراء والبيوت، وكره مجاهد، والنخعي ذلك.

                                                                                                                                                                              وحجة هذه الفرقة ظاهر هذه الأخبار التي فيها النهي عن العموم.

                                                                                                                                                                              ورخصت طائفة في استقبال القبلة واستدبارها بالغائط والبول، هذا قول عروة ، وكان يقول: وأين أنت منها؟ وقد حكي هذا القول عن ربيعة.

                                                                                                                                                                              واحتج بعض من يوافق هذا القول بحديث عائشة.

                                                                                                                                                                              259 - حدثنا علي بن عبد العزيز، نا حجاج، نا حماد، نا خالد الحذاء، عن خالد بن أبي الصلت، قال: كنا عند عمر بن عبد العزيز، فذكروا استقبال القبلة بالفروج، فقال عراك بن مالك: قالت عائشة: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عنده أن ناسا يكرهون استقبال القبلة بفروجهم، فقال: "قد فعلوها استقبلوا بمقعدي القبلة" .

                                                                                                                                                                              [ ص: 442 ] وبأحاديث قد ذكرنا أسانيدها في غير هذا الكتاب.

                                                                                                                                                                              [ ص: 443 ] وقال بعضهم: الأشياء على الإباحة، وجاءت الأخبار في هذا الباب مختلفة، ولا يعرف ناسخها من منسوخها، فوجب إيقاف الخبرين، وحمل الأشياء على الإباحة التي كانت إذا خفي الناسخ من الخبرين.

                                                                                                                                                                              وفرقت فرقة ثالثة بين استقبال القبلة واستدبارها في الصحاري والمنازل، فنهت عن ذلك في الصحاري، ورخصت فيه في المنازل، روي هذا القول عن الشعبي، وبه قال الشافعي، وإسحاق، وحكي عن مالك هذا المعنى، حكى [ ابن ] القاسم عنه أنه سئل عن استقبال القبلة للغائط، أترى البيوت مثل الصحاري؟ قال: لا، ولا [ أرى ] في البيوت شيئا، وحكي ابن وهب عنه أنه قال في البيوت: أحب عندي.

                                                                                                                                                                              واحتج بعض من قال بهذا القول في النهي عن ذلك في الصحاري بخبر أبي أيوب، واحتج في الرخصة في ذلك في المنازل بحديث ابن عمر.

                                                                                                                                                                              260 - حدثنا إبراهيم بن عبد الله، أنا يزيد بن هارون، أنا يحيى، أن محمد بن يحيى، أخبره أن عمه واسع بن حبان أخبره، عن عبد الله بن عمر، قال: ويقول ناس: إذا قعدت للغائط فلا تستقبل القبلة، ولا بيت المقدس، قال ابن عمر: لقد ظهرت يوما على ظهر بيت، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم جالسا [ ص: 444 ] على لبنتين مستقبل بيت المقدس.

                                                                                                                                                                              ودفع أبو ثور حديث عائشة بأن قال: خالد بن أبي الصلت ليس بمعروف.

                                                                                                                                                                              وقال أحمد: أما من ذهب إلى حديث عائشة، فإن مخرجه حسن، وقال غير أحمد: خالد معروف، قد روى عنه خالد الحذاء، والمبارك بن فضالة، وواصل مولى أبي [ عيينة ].

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وأصح هذه المذاهب مذهب من فرق بين الصحاري والمنازل في هذا الباب، وذلك أن يكون ظاهر نهي النبي عليه السلام على العموم إلا ما خصت السنة مستثنى من جملة النهي، وإنما تكون الأخبار متضادة إذا جاءت جملة فيها ذكر النهي يقابل جملة ما فيها ذكر الإباحة، فلا يمكن استعمال شيء منها إلا بطرح ما ضادها، وسبيل هذا كسبيل نهي النبي عليه السلام عن بيع الثمر بالثمر جملة، ثم رخص في بيع العرايا بخرصها، فبيع العرية مستثنى من جملة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر بالثمر، وكذلك نهيه عن بيع ما ليس عند المرء، وإذنه في السلم.

                                                                                                                                                                              [ ص: 445 ] وهذا الوجه موجود في كثير من السنن، والله أعلم.

                                                                                                                                                                              فلما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن استقبال القبلة بالغائط والبول نهيا عاما، واستقبل بيت المقدس مستدبرا الكعبة، كان إباحة ذلك مخصوصا في المنازل، مخصوصا من جملة النهي.

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية