الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر اختلاف أهل العلم فيما يجب على الراعف

                                                                                                                                                                              واختلفوا فيما يجب على الراعف، فأوجبت طائفة عليه الوضوء، فممن روينا عنه أنه رأى أن عليه الوضوء: عمر، وعلي، وسلمان، وكان ابن عمر إذا رعف انصرف فتوضأ ثم رجع وبنى، وكذلك فعل ابن المسيب، وعلقمة بن قيس وهو مذهب إبراهيم، وقتادة، وعطاء، ومكحول [ ص: 274 ] وهذا مذهب الثوري في الجرح لا يرقأ أن عليه الوضوء، وهو قول أحمد في الرعاف، وبه قال أصحاب الرأي.

                                                                                                                                                                              59 - حدثنا علي بن عبد العزيز، نا حجاج، نا حماد، عن حجاج، عن خالد بن سلمة، عن محمد بن الحارث بن أبي ضرار، أن عمر بن الخطاب، كان يصلي بأصحابه فرعف، فأخذ بيد رجل فقدمه، ثم ذهب فتوضأ، ثم جاء فصلى ما بقي عليه من صلاته ولم يتكلم.

                                                                                                                                                                              60 - حدثنا علي، ثنا حجاج، نا حماد، عن حجاج، عن أبي إسحاق الهمداني، عن عاصم بن ضمرة، أن عليا، قال: إذا وجد أحدكم رزا في بطنه في الصلاة من بول، أو قيء، أو غائط، أو رعاف؛ فلينصرف فليتوضأ، ثم ليرجع فليصل ما لم يصله.

                                                                                                                                                                              61 - أخبرنا محمد بن عبد الله، أنا ابن وهب، أخبرني عبد الله بن [ ص: 275 ] [ عمر، و ] وحنظلة بن أبي سفيان، ومالك، والليث، وأسامة بن زيد، وابن سمعان، أن نافعا حدثهم؛ أن عبد الله بن عمر كان إذا رعف انصرف فتوضأ، ثم رجع فبنى [ على ] ما مضى ولم يتكلم.

                                                                                                                                                                              62 - حدثنا محمد بن نصر، نا إسحاق، نا وكيع، عن سفيان، عن عمران بن ظبيان، عن حكيم بن سعد أبي يحيى، عن سلمان، قال: إذا وجد أحدكم في الصلاة رزا، أو قيئا، أو رعافا، فلينصرف غير راع لصنيعته، ثم ليتوضأ، وليعد إلى بقية صلاته.

                                                                                                                                                                              وفي الرعاف والدم السائل يخرج من البدن قول ثان: وهو أن لا وضوء في الرعاف، هذا قول طاوس، وروي ذلك عن عطاء.

                                                                                                                                                                              [ ص: 276 ] وبه قال أبو جعفر، وسالم بن عبد الله، قال مكحول: لا وضوء من دم إلا ما خرج من جوف أو دبر.

                                                                                                                                                                              وحكي عن ربيعة أنه قال: لو رعفت ملء طست ما أعدت منه الوضوء.

                                                                                                                                                                              وممن مذهبه أن لا وضوء في الرعاف، ولا [ في ] شيء يخرج من غير مواضع الحدث: يحيى الأنصاري، وربيعة، ومالك، قال مالك: [ الأمر ] عندنا أنه لا يتوضأ من رعاف، ولا من دم، ولا من قيح يسيل من الجسد، وبه قال الشافعي، وأبو ثور.

                                                                                                                                                                              وأسقطت فرقة ثالثة عن القليل منه الوضوء، روينا عن عبد الله بن أبي أوفى: أنه بزق دما ثم قام فصلى، وعن ابن عباس أنه قال: إذا كان الدم [ ص: 277 ] فاحشا فعليه [ الإعادة ] ، وإن كان قليلا فلا إعادة عليه.

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: هذا يحتمل معنيين، يحتمل أن يكون أراد إذا صلى وفي ثوبه دم [ قليل ] فلا إعادة عليه، ويحتمل غير ذلك،وعن ابن عمر أنه عصر بثرة كانت بجبهته، فخرج منها دم وقيح فمسحها، وصلى ولم يتوضأ.

                                                                                                                                                                              وروينا عن أبي هريرة: أنه أدخل إصبعه في أنفه فخرج فيها دم ففته بأصبعه، ثم صلى ولم يتوضأ. وعن جابر أنه قال: لو أدخلت أصبعي في أنفي ثم خرج دم لدلكته بالبطحاء وما توضأت.

                                                                                                                                                                              وعن أبي هريرة: أنه كان لا يرى أن يعيد الوضوء من القطرة والقطرتين.

                                                                                                                                                                              وعن ابن مسعود: أنه أدخل أصابعه في أنفه فخضبهن في الدماء ثم قال بهن في التراب ففتهن ثم قام إلى الصلاة.

                                                                                                                                                                              63 - حدثنا علي بن الحسن، نا يعلى بن عبيد، نا سفيان، عن عطاء بن السائب، قال: رأيت عبد الله بن أبي أوفى بزق دما ثم قام فصلى.

                                                                                                                                                                              [ ص: 278 ]

                                                                                                                                                                              64 - حدثنا يحيى بن محمد، نا أحمد [ بن ] حنبل، نا أبو عبد الصمد العمي، نا سليمان، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس، قال: إذا كان الدم فاحشا فعليه الإعادة، وإن كان قليلا فلا إعادة عليه.

                                                                                                                                                                              65 - حدثنا علي بن عبد العزيز، نا حجاج، نا حماد، عن حميد، عن بكر بن عبد الله المزني، أن ابن عمر عصر بثرة كانت بجبهته، فخرج منها دم وقيح فمسحها، فصلى ولم يتوضأ. ورأى رجلا قد احتجم بين يديه، وقد خرج من محاجمه شيء من دم وهو يصلي، فأخذ ابن عمر فصاه فسلت الدم، ثم دفنها في المسجد.

                                                                                                                                                                              66 - حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن جعفر بن برقان، قال: أخبرني ميمون بن مهران، قال: رأيت أبا هريرة أدخل أصبعه في أنفه ،فخرج فيها دم، ففته بأصبعه، ثم صلى ولم يتوضأ .

                                                                                                                                                                              [ ص: 279 ]

                                                                                                                                                                              67 - وحدثت عن محمد بن يحيى، نا أبو نعيم، نا [ عبيد الله ] بن حبيب بن [ أبي ] ثابت، قال: سمعت أبا الزبير، يذكر عن جابر، قال: لو أدخلت إصبعي في أنفي، ثم خرج دم، لدلكته بالبطحاء، وما توضأت.

                                                                                                                                                                              68 - حدثنا محمد، نا إسحاق، أنا عبد الله بن إدريس، عن رجل أحسبه جويبر، عن [ جواب بن عبيد الله ] ، عن الحارث بن سويد، أن ابن مسعود، أدخل أصابعه في أنفه فخضبهن في الدماء، ثم قال بهن في التراب ففتهن، ثم قام إلى الصلاة.

                                                                                                                                                                              69 - وحدثونا عن أبي زرعة، نا ابن الأصبهاني، نا شريك، عن عمران بن مسلم، عن مجاهد، قال: كان أبو هريرة لا يرى أن يعيد [ ص: 280 ] الوضوء من القطرة والقطرتين، قال: لا يعيد إلا أن يبول أو يضرط.

                                                                                                                                                                              وحكى الأثرم عن أحمد أنه سئل عن الدم ما سال من الجرح، أو كان في الثوب، فقال سواء - أي: حتى يفحش في خروجه من الجرح، وفيما يكون في الثوب منه - واحتج بأن ابن عمر عصر بثرة فخرج منه دم فمسحه وصلى ولم يتوضأ، وذكر حديث أبي هريرة وابن أبي أوفى قال: وقال ابن عباس: إذا كان فاحشا أعاد.

                                                                                                                                                                              وقد احتج بعض من يوجب على الراعف، والمحتجم، وعلى من خرج من جرحه دم؛ [ الوضوء ] بالأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإيجابه الوضوء [ على ] المستحاضة، وقد اتفق كثير من أهل العلم على القول بذلك، قال: فجعلنا سائر الدماء الخارجة من الجسد قياسا على دم الاستحاضة، احتج بهذه الحجة يعقوب، وابن الحسن.

                                                                                                                                                                              [ ص: 281 ] واحتج غيرهما ممن لا يوجب الوضوء من ذلك بأن الفرائض إنما تجب بكتاب أو سنة أو إجماع، وليس مع من أوجب الوضوء من ذلك حجة من حيث ذكرنا، بل قد أجمع أهل العلم على أن من تطهر طاهر.

                                                                                                                                                                              وقد اختلفوا في نقض طهارته بعد حدوث الرعاف، والحجامة، وخروج الدماء من غير القرح، والقيء، والقلس، فقالت طائفة: انتقضت طهارته، وقال آخرون لم تنتقض. قال: فغير جائز أن تنتقض طهارة مجمع عليها إلا بإجماع مثله، أو خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا معارض له، ولا يجوز أن يشبه ما يخرج من سائر الجسد بما يخرج من القبل أو الدبر؛ لأنهم قد أجمعوا على الفرق بين ريح تخرج من الدبر، وبين الجشاء المتغير يخرج من الفم، فأجمعوا على وجوب الطهارة في أحدهما، وهو الريح الخارج من الدبر، وأجمعوا أن الجشاء لا وضوء فيه، ففي إجماعهم على الفرق بين ما يخرج من مخرج الحدث، وبين ما يخرج من غير مخرج الحدث، أبين البيان على أن ما خرج من سائر الجسد غير جائز أن يقاس على ما خرج من مخرج الحدث.

                                                                                                                                                                              مع أن من خالفنا من أهل الكوفة يفرق بين الدود يخرج من مخرج [ ص: 282 ] الحدث، وبين الدود يسقط من الجرح، فيوجب الوضوء في الدودة الخارجة من الدبر، ولا يوجب الوضوء من الدودة الساقطة من الجرح، ولا فرق بين الدودتين، وبين الدمين الخارج أحدهما من مخرج الحدث، والآخر من غير مخرج الحدث.

                                                                                                                                                                              ويدخل على أهل الكوفة شيء آخر، زعموا أن بظهور دم الاستحاضة والغائط والبول يجب الوضوء، وتركوا أن يوجبوا الوضوء من الدم يخرج من سائر الجسد حتى يسيل، ولو جاز أن يحكم لأحدهما بحكم الآخر، وجب أن يكون الجواب في أحدهما كالجواب في الآخر.

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وليس وجوب الطهارات من أبواب النجاسات بسبيل، ولكنها عبادات، قد يجب على المرء الوضوء بخروج الريح من دبره، ثم يجب عليه كذلك غسل الأطراف، والمسح بالرأس، وترك أن يمس موضع الحدث بماء أو حجارة، وقد يجب بخروج المني وهو طاهر، غسل جميع البدن، ويجب بخروج البول غسل أعضاء الوضوء، والبول نجس، ويجب بالتقاء الختانين الاغتسال، وكل ذلك عبادات، وغير جائز أن يقال: إن الطهارات إنما تجب لنجاسة تخرج، فنجعل النجاسات قياسا عليها، بل هي عبادات لا يجوز القياس عليها.

                                                                                                                                                                              وقد تكلم في الأسانيد التي رويت عن علي، وسلمان، وقد [ ص: 283 ] ذكرت عللها مع حجج تدخل على من خالفنا في الكتاب الذي اختصرت منه هذا الكتاب.

                                                                                                                                                                              وقد اختلف الذي أوجبوا من خروج الدم من سائر الجسد الوضوء، فقال أكثرهم: لا يجب الوضوء بظهور الدم حتى يسيل، هكذا قال عطاء، والنخعي، وقتادة، وحماد الكوفي، [ إلا ] أن حمادا قال: لا وضوء فيه حتى يسيل أو يقطر.

                                                                                                                                                                              وقال أصحاب الرأي في الدمل والقرح يخرج منه الدم، قالوا: إن كان قليلا لم [ يسل عن ] رأس الجرح [ فلا ] وضوء عليه.

                                                                                                                                                                              وقال سفيان الثوري في الرجل يدخل إصبعه في أنفه فيخرج عليه دم، قال: ما لم يكن سائلا فلا بأس. وقال سعيد بن جبير في الخدش يظهر منه الدم: لا يتوضأ حتى يسيل، وكان مجاهد يقول: يتوضأ وإن لم يسل.

                                                                                                                                                                              [ ص: 284 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية