الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        (200) ما رواه البيهقي من طريق علي بن عبد الله المديني، حدثني أبي ، أخبرني علقمة بن أبي علقمة، عن أمه قالت: «دخل شيبة بن عثمان الحجبي على عائشة رضي الله عنها فقال : يا أم المؤمنين إن ثياب الكعبة تجتمع علينا فتكثر ، فنعمد إلى آبار فنحتفرها فنعمقها، ثم ندفن ثياب الكعبة فيها كيلا يلبسها الجنب والحائض، فقالت له عائشة رضي الله عنها: ما أحسنت، ولبئس ما صنعت، إن ثياب الكعبة إذا نزعت منها لم يضرها أن يلبسها الجنب والحائض، ولكن بعها واجعل ثمنها في المساكين وفي سبيل الله، قالت: فكان شيبة بعد ذلك يرسل بها إلى اليمن فتباع هناك، ثم يجعل ثمنها في المساكين وفي سبيل الله وابن السبيل» .

        [ ص: 102 ] قال ابن قاضي الجبل: وهذا ظاهر في مطلق نقل الملك عند رجحان المصلحة، فكذا مع شرطه.

        8 - إلحاق محل النزاع بموقع الإجماع، حيث جوز الأئمة الكبار، بل أجمع العلماء على جواز بيع دواب الحبس الموقوفة إذا لم تعد صالحة لما وقفت له، فالفرس الحبيس ونحوه إذا عاد عاطلا عن الصلاحية للجهاد يجوز بيعه إجماعا، وإن كان فيه نفع من وجه آخر من أنواع الانتفاع من الحمل والدوران ونحوه، ومن المعلوم أن الفرس الحبيس ونحوه لو لم يبق فيه نفع مطلقا لما أمكن بيعه; إذ لا يجوز بيع ما لا نفع فيه، فعلم أن منفعته ضعفت وجاز الاستبدال بأرجح منه، فعلم أن ذلك دائر مع رجحان المصلحة في جنس الاستبدال، وإذا كان التغيير في أصل الوقف للمصلحة، فكذا في شرطه.

        9 - أن الأعيان الموقوفة كالدور والمزارع والمنقولات إنما وقفت; ليعود ريعها على مستحقيه جريا على مناهج المعروف وطلبا لاتصال الريع إلى مستحقيه، فالمطلوب من ذلك حصول الماء إلى أهله ووقوعه في أيدي مستحقيه مع زيادته واستنمائه ، فإذا ظهرت المصلحة في زيادة الريع، وتنمية المغل، ولم يعارض معارض ظهرت مصلحة الاستبدال طلبا لتنمية المصالح، وتكميلا للمقاصد، ومثل هذا يقال في شرط الوقف.

        10 - أن المقصود من الوقف هو القربة، فما كان أصلح فهو أولى وأفضل في الثواب.

        11 - ما تقرر من أن شدة الحاجة للوقف تتغير، وإذا كان من المقرر أنه [ ص: 103 ] لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان «فلأن لا ينكر تغير الجهات الموقوف عليها بتغير الأزمنة واختلاف الحاجات من باب أولى» .

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن تعيين المصلحة تختلف فيها الاجتهادات، فيرجح ما اختاره القاضي.

        أدلة القول الثاني: (عدم الجواز) :

        استدل أصحاب هذا القول بما يلي:

        1 - ما تقدم من أدلة وجوب العمل بشرط الواقف، وأنه هو الأصل.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن تغيير شرط الواقف من أدنى إلى أعلى عمل بشرط الواقف، وزيادة.

        2 - حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وفيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ولكن ينفق ثمره» ، وإذا منع من تغيير الأصل فكذا الفرع، وهو الشرط فيه.

        ونوقش الاستدلال بهذا الحديث: أن المراد بيع الوقف الممنوع إنما هو البيع المبطل لأصل الوقف، وعلى افتراض أن المراد به عموم بيع الوقف فإنه يخص منه حالة التعطل، وكذا حالة رجحان المصلحة لما تقدم من الدليل على ذلك.

        3 - قياس الموقوف على الحر المعتق، فكما أن العتيق الحر لا يقبل الرق بعد عتقه، فكذلك العين الموقوفة لا تقبل الملك بعد صحة الوقف.

        وكذا شرط الوقف.

        [ ص: 104 ] ونوقش هذا الاستدلال: أن هذا القياس قياس مع الفارق فلا يعتد به; لأن المعتق خرج عن المالية بالإعتاق بخلاف الوقف فلم يخرج عن المالية.

        وقال القاضي أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى الفراء: «احتجوا بأنه بالوقف زال ملكه على وجه القربة، فلا يجوز التصرف فيه كإزالته على وجه العتق.

        والجواب: أن الهدي الواجب بالنذر قد زال ملكه عنه، ويجوز التصرف فيه بالذبح قبل محله، وكذلك إذا نذر أن يتصدق بدراهم بعينها جاز إبدالها بغيرها، وكذلك إذا جعل داره هدية إلى الكعبة جاز بيعها وصرف ثمنها إلى الكعبة، فأما العبد إذا أعتقه فلا سبيل إلى إعادة المالية فيه بعد عتقه; لأنه إتلاف للمالية بخلاف مسألتنا، فإن المالية فيه ثابتة، وإنما المنافع هي المقصودة فتوصل بماليته إلى حصول فائدته بإبداله وبيعه، فصار شبهه بالهدي إذا عطب أولى من العبد إذا أعتق» .

        (201) 4 - ما رواه الإمام أحمد من طريق الجهم، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه رضي الله عنهما قال: «أهدي عمر بن الخطاب نجيبا فأعطى بها ثلاثمائة دينار، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أهديت نجيبا، فأعطيت بها ثلاثمئة دينار، أفأبيعها وأشتري بثمنها بدنا؟ قال: «لا، انحرها إياها» . [ ص: 105 ] وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم منع عمر بن الخطاب من تغيير الهدي، فيقاس عليه تغيير الوقف، وشرطه.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجوه:

        الوجه الأول: أن هذا الحديث ضعيف لا يحتج به لأمرين:

        أحدهما: أن فيه الجهم بن الجارود، قال الذهبي: فيه جهالة.

        الثاني: أن الحديث فيه انقطاع، فقد ذكر البخاري في تاريخه: أنه لا يعرف لجهم سماع من سالم.

        الوجه الثاني: لو فرض صحة الحديث، فإنه يقال: إن فرض المسألة كون العين التي وقع الاستبدال بها أرجح من الوقف وأولى، والعين التي أراد عمر الاستبدال بها ليست أرجح من النجيبة بالنسبة على القرب إلى الله تعالى، بل النجيبة كانت راجحة على ثمنها، وعلى البدن المشتراة به; وذلك [ ص: 106 ] لأن خير الرقاب أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها، والمطلوب أعلى ما يؤخذ فيما يتقرب به إلى الله تعالى، وتجنب الدون.

        الوجه الثالث: لو فرض صحة الحديث، ولو سلمنا كون الاستبدال بالهدي والأضحية ممنوعا منه لم يلتزم عدم جواز الاستبدال في الأوقاف عند رجحان المصالح; وذلك أن الوقف مراد لاستمرار ريعه ودوام غلته بخلاف الهدي والأضحية.

        5 - أن للواقف غرضا وقصدا في تعيين الجهة التي يصرف إليها الوقف.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن مخالفة شرط الواقف إلى أعلى فيه تحقيق الغرض الواقف وزيادة.

        6 - أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فيمنع من تغيير شرط الواقف منعا لئلا يتلاعب بالوقف.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه مسلم حال التلاعب، وتبقى المشروعية حال السلامة.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية