الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        استدل أصحاب هذا القول بعدة أدلة منها:

        (196) 1 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق زيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة، فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة» .

        قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : «ومعلوم أن الكعبة أفضل وقف على وجه الأرض، ولو كان تغييرها وإبدالها بما وصفه صلى الله عليه وسلم واجبا لم يتركه، فعلم أنه كان جائزا، وأنه كان أصلح لولا ما ذكره من حدثان عهد قريش بالإسلام، وهذا فيه تبديل بنائها ببناء آخر، فعلم أنه جائز في الجملة، وتبديل التأليف بتأليف آخر هو أحد أنواع الإبدال» .

        وقال ابن قاضي الجبل: «هذا الحديث دل على مساغ مطلق الإبدال في الأعيان الموقوفات للمصالح الراجحات» .

        [ ص: 96 ] وإذا كان هذا في أصل الوقف، ففي وصفه، وهو الشرط فيه من باب أولى، فيجوز تغيير الشرط من أدنى إلى أعلى.

        (197) 2 - ما رواه الإمام أحمد من طريق حماد بن سلمة، أخبرنا حبيب المعلم، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «أن رجلا قام يوم الفتح فقال: يا رسول الله، إني نذرت لله إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين، قال: «صل هاهنا» ثم أعاد عليه، فقال: «صل هاهنا» ثم أعاد عليه، فقال: «شأنك إذن» .

        [ ص: 97 ] وجه الدلالة: دل الحديث على جواز إبدال النذر بخير منه، فكذلك الوقف.

        (198) 3 - وروى أبو داود من طريق ابن إسحاق قال : حدثني عبد الله ابن أبي بكر، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، عن عمارة بن عمر بن حزم، عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم مصدقا، فمررت برجل، فلما جمع لي ماله لم أجد عليه فيه إلا ابنة مخاض، فقلت له: أد ابنة مخاض، فإنها صدقتك، فقال: ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر، ولكن هذه ناقة فتية عظيمة سمينة فخذها، فقلت له: ما أنا بآخذ ما لم أؤمر، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب، فإن أحببت أن تأتيه فتعرض عليه ما عرضت علي فافعل، فإن قبله منك قبلته، وإن رده عليك رددته ، قال : فإني فاعل، فخرج معي وخرج بالناقة التي عرض علي حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا نبي الله، أتاني رسولك ليأخذ مني صدقة مالي، وايم الله ما قام في مالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رسوله قط قبله، فجمعت له مالي فزعم أن علي فيه ابنة مخاض، وذلك ما لا لبن فيه ولا ظهر، وقد عرضت عليه ناقة فتية عظيمة ليأخذها فأبى علي، وها هي ذه قد جئتك بها يا رسول الله خذها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك الذي عليك، فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلنا منك» ، قال : فها هي ذه يا رسول الله قد جئتك بها فخذها، قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضها، ودعا له في ماله بالبركة» .

        [ ص: 98 ] وجه الدلالة: دل الحديث على جواز إبدال جنس الواجب في الزكاة، بخير منه من نوعه، فإذا وجبت بنت مخاض فأدى بنت لبون، أو وجبت بنت لبون فأدى حقة جاز، قال ابن قاضي الجبل: «ويتناول بمعناه الأعيان الموقوفات إذا ظهرت مصلحة الاستبدال بها على غيرها» .

        وإذا ثبت هذا في أصل الوقف، ففي وصفه وهو الشرط فيه من باب أولى.

        4 - ما رواه البخاري ومسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عليه، فأردت أن أشتريه منه، وظننت أنه بائعه برخص، فسألت عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم واحد، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه» .

        قوله: «فأضاعه» : يقتضي أن الذي كان عنده قصر في حقه حتى ضعف فبيع; لضياعه وضعفه، ولم ينكر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، وإنما نهى عمر رضي الله عنه عن شرائه لكونه تصدق به. [ ص: 99 ] والظاهر من الحمل في سبيل الله: أن المراد بذلك حقيقة الحبس، بل هو المتبادر من السبيل خصوصا وقد سماه صدقة في قوله: «ولا تعد في صدقتك» ، ولفظ الصدقة من ألفاظ الوقف، كما في حديث عمر في الوقف «فتصدق بها عمر» ، فالتمسك بذكر الهبة، لمشابهة ارتجاع الوقف للهبة; لما في ذلك من الارتجاع في العين بعد خروجها، فإذا جاز الإبدال في أصل الوقف، فكذا في شرطه.

        ونوقش: بعدم التسليم; بل عمر به ملكه إياه بدليل أنه أراد بيعه والوقف لا يباع.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية