الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المبحث الرابع عشر: مصرف الوقف إذا كان في سبيل البر، أو في طرق الخير

        إذا قال الواقف: هذا وقف في سبيل البر، أو الخير، أو الثواب، اختلف العلماء في تعيين مصرف ذلك على أقوال:

        القول الأول: أنها تصرف في القرب كلها، يبدأ من ذلك بالغزو.

        وهذا قول الحنفية، والمذهب عند الحنابلة.

        وعن الإمام أحمد: أنه يصرف في أربع جهات: الأقارب، والمساكين، والحج والجهاد، ويبدأ بالغزو.

        ولو أوصى بالثلث في وجوه الخير قال الحنفية: يصح ويصرف إلى القنطرة، أو بناء مسجد أو طلبة العلم.

        ونص الحنفية في فتاوى أبي الليث: أن كل ما ليس فيه تمليك فهو من أعمال البر، حتى يجوز صرفه إلى عمارة المسجد وسراجه، ولا يجوز الصرف إلى بناء السجون.

        القول الثاني: أنها تصرف في أقارب الواقف، فإن لم يوجدوا أعطي أهل الزكاة. [ ص: 259 ] وهذا مذهب الشافعية، وقال في التهذيب: «يجوز صرفه إلى ما فيه صلاح المسلمين من أهل الزكاة، وإصلاح القناطر، وسد الثغور، ودفن الموتى وغيرها» .

        وعن بعض الشافعية: جواز صرفه إلى ما فيه صلاح المسلمين من أهل الزكاة، وإصلاح القناطر، وسد الثغور، ودفن الموتى.

        وعن بعض الشافعية: أنه إذا أوصى إلى جهة الخير، تصرف على مصارف الزكاة ولا يبنى بها مسجد ولا رباط، وإن أوصى إلى جهة الثواب صرف إلى أقاربه.

        القول الثالث: أنه يصرف في ذوي الحاجة في سبيل الله.

        وهذا قول المالكية.

        وعن مالك جعله في الفقراء.

        الأدلة:

        استدل أصحاب القول الأول بما يلي:

        1 - قوله تعالى: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قال السعدي: «هذا حث من الله لعباده على الإنفاق في طرق الخيرات، فقال: لن تنالوا أي: تدركوا وتبلغوا البر الذي هو كل خير من أنواع الطاعات وأنواع المثوبات الموصل لصاحبه إلى الجنةحتى تنفقوا مما تحبون أي: من أموالكم النفيسة التي تحبها نفوسكم» .

        [ ص: 260 ] وقوله تعالى: ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر ، قال ابن كثير: ولكن البر من آمن ، أي: الشأن كله في امتثال أوامر الله، فحيثما وجهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة، وهذا شامل لكل طرق الخير» .

        (230) 2 - ما رواه سعيد بن منصور قال: حدثنا حماد بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن أبي حبيبة قال: «كنت عند أبي الدرداء وأنا أريد الغزو فجاءه رجل، فقال: إن أخي مات وأوصى بطائفة من ماله يتصدق به، وقال: لا تقضي شيئا حتى تأتي أبا الدرداء، ففي أي شيء ترى أن نجعله؟ قال: ما من شيء يجعل فيه خير من سبيل الله، قال: فلم أقم من ثمة إلا بصرة، قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مثل الذي يعتق عند الموت كمثل الذي يهدي بعد الشبع» .

        ولكنه ضعيف.

        3 - أن الغزو أفضل القرب; وذلك لما جاء فيه من الأدلة الكثيرة الدالة على عظم أجره، وكبير فضله.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن الغزو أفضل القرب لا يعني أن يصرف إليه [ ص: 261 ] دون غيره; إذ قد يكون قصد الواقف شمول أبواب كثيرة من النفقات والتبرعات، ولو صرف الكل للأفضل لتعطل المفضول.

        أدلة القول الثاني:

        1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار على أبي طلحة رضي الله عنه أن يجعلها في الأقربين، فدل ذلك على عظم حقهم، وأنهم أولى من غيرهم، ولذا جاء عن بعض التابعين نحو من ذلك، فعن الحسن أنه قال: «من أوصى بثلثه وله ذو قرابة محتاجون أعطوا ثلث الثلث» ، بل جاء عن طاوس: «أنه لو أوصى لغيرهم وهم محتاجون انتزع لهم» .

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن جعلها في الأقربين بناء على إذن أبي طلحة على جعلها فيهم.

        وأما ما ورد عن التابعين فلا تعدو أن تكون آراء لهم لا يستدل بها، بل يستدل لها، وقول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالأخذ منها.

        (231) 2 - ما رواه مسلم من طريق عمرو بن الحارث، عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تصدقن معشر النساء ولو من حليكن» فسألته زينب امرأة عبد الله، وامرأة من الأنصار، أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما، وعلى أيتام في حجورهما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

        «لهما أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة»
        .

        3 - أن جعلها بعد القرابة في أهل الزكاة من وجوه:

        [ ص: 262 ] الأول: أن باب الوقف والزكاة فيه تقارب من جهة صلة الموصى له، ومن تصرف له الزكاة.

        الثاني: أنه لم يحدد جهة معينة، فكان التعيين للشارع، وقد جعل مثيلها في الأصناف الثمانية في باب الزكاة.

        الثالث: أن أهل الزكاة جهات متعددة ومتنوعة، يمكن القول بأنها تفي بمقصود الموقف، كما أنها أصول أبواب البر العامة.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن الزكاة تفارق الوقف في أشياء كثيرة، فالوقف يصرف للأغنياء بخلاف الزكاة، كما أن الوقف يصلح به الطرق، ويبنى به المساجد، والمدارس بخلاف الزكاة، فلم يصلح القياس.

        كما أنه لا يمكن القول بأن أهل الزكاة تشمل أبواب البر أو جماعها; إذ إن أبوابا كثيرة من البر تدخل في عموم الصدقة والوصية والوقف، ولا تصرف فيها الزكاة كإصلاح القناطر وسد الثغور وغيرها.

        4 - أنه إذا لم يوجد أقارب للواقف، فيصرف إلى أهل الزكاة; لأن أهل الزكاة أهل حاجة منصوص عليهم في القرآن، فكان من نص الله تعالى في كتابه أولى من غيره، وإن ساواه في الحاجة.

        دليل القول الثالث: أنه أوقف وقفا مطلقا يعم أبوابا كثيرة.

        فكان البداءة بالأهم، وليس ثم أبدى وأولى من ذوي الحاجة، ومن هم في سبيل الله.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - هو القول القائل بصرف ريع الوقف المحبس على [ ص: 263 ] الخير والثواب، وفي سبيل البر على المصالح كلها، ويدخل في ذلك الأقارب، ولأن أقارب الميت أكثر الجهات ثوابا.

        وفي فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم: «وأما إذا قال: في أعمال البر وسكت، فقد أجاب على مثل ذلك الشيخ عبد الله أبا بطين بما نصه: الذي وقف على جهة بر ولم يعين مصرفا، فالذي أرى أنه يصرف في فقراء أقاربه، لاسيما فقراء ورثته، ويصرف في غير ذلك من وجوه البر كفطر صوم، ونحو ذلك» .

        [ ص: 264 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية