الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        أدلة القول الأول: (لا تجب عمارته على أحد، ولكن يباع...) استدل لهذا القول بما يلي:

        1 - عمارة الأوقاف كعمارة الأملاك، والمالك لا يجب عليه أن يعمر ملكه، فلا تجب العمارة لا على الموقوف عليه إذا نسبنا الملك إليه، ولا في مال الله تعالى على قول إضافة الملك إلى الله.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن قوله: «لا يجب على المالك أن يعمر ملكه» غير مسلم; لما تقدم من النهي عن إضاعة المال.

        [ ص: 366 ] 2 - أنه إذا لم تجب عمارة العين الموقوفة على أحد وجب أن تباع ويشترى بثمنها مثلها مما ينتفع به في الوجه الذي وقف فيه; لأن في ذلك استبقاء الوقف بمعناه عند تعذر استبقائه بصورته.

        دليل القول الثاني: (أنه يباع بعضه، ويعمر بالثمن بقيته) : أنه إذا جاز بيع الكل عند الحاجة، فبيع البعض مع بقاء البعض أولى.

        ونوقش: بأنه إنما جاز بيع الكل; لأنه في حكم البدل فالكل أبدل بعين أخرى فيها منفعة، أما هذا البعض فلم يبدل به عين موقوفة سوى عمارة ما بقي من العين.

        دليل القول الثالث: (أنه يعمر من غلة وقف آخر) :

        مراعاة مصلحة الموقوف عليه الذي كان من المفروض أن يستفيد من غلة الوقفين معا، فإذا توقف أحد الوقفين عن الغلة واحتاج إلى العمارة أخذت نفقة العمارة من غلة الوقف الآخر المتحد معه في الجهة حتى يكون كلا الوقفين ذا غلة تدر على الموقوف عليه.

        ونوقش هذا الاستدلال: أن الذي يراعى ليس مصلحة الموقوف عليه فقط، بل أيضا شرط الواقف الذي اشترط أن تصرف الغلة إلى تلك الجهة دون عمارة الأوقاف الأخرى، فكما نراعي مصلحة الموقوف عليه نراعي مصلحة الواقف المتمثلة بتنفيذ شروطه، هذا بالإضافة إلى أنه قد لا يكون في مصلحة الموقوف عليه حرمانه من غلة هذا العام لعمارة الوقف الآخر، فقد يموت قبل أن يستفيد من الوقف الآخر، فيكون حرم من غلة هذا الوقف دون أن يستفيد من الوقف الآخر الذي صرف حقه فيه. [ ص: 367 ] وأجيب: بأن صرف الغلة في عمارة الوقف الآخر إذا كان الجهة واحدة فيها تحقيق لمصلحة الموقوف عليه، وعدم مخالفة شرط الواقف.

        أدلة القول الرابع: (تعمر من بيت المال، وإلا تركت حتى تهلك) :

        استدل أصحاب هذا القول بما يلي:

        1 - عموم حديث عمر رضي الله عنه، وفيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: تصدق بأصله، لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث، ولكن ينفق ثمره» .

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن هذا الحديث دل بعموم على عدم جواز بيع الوقف، ولكن هذا مشروط بعدم خرابه، وذلك بأن يكون له ثمرة، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: «ولكن ينفق ثمره» ، فإذا لم يكن له ثمرة يستفاد منها فلا معنى لتعطيله وتركه مع إمكان تحقيق مقصود الواقف بدوام الانتفاع منه، وذلك بإبداله بعين ذات غلة ومنفعة.

        2 - أنه إذا لم يجز لهم البيع قبل الاختلال، فكذلك بعد الاختلال، كالعبد المعتق لا يجوز له بيعه بكل حال.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:

        الوجه الأول: أنه إنما امتنع البيع قبل الاختلال لتحقق مقصود الواقف من دوام الانتفاع المؤدي إلى استمرار الثواب، وهذا المعنى غير موجود بعد الاختلال وانقطاع المنفعة.

        الوجه الثاني: أن القياس على المعتق قياس مع الفارق; لأن العتيق بعد أن صار حرا فليس لأحد الحق في التصرف لا بعينه ولا بمنفعته إلا بإذنه، فلا تشوبه شائبة الملك بخلاف العين الموقوفة، فإنه وإن امتنع بيعها قبل [ ص: 368 ] الخراب إلا أن منفعته مملوكة للموقوف عليه يتصرف فيها كيف شاء، فالوقف فيه شائبة الملك.

        الترجيح:

        الراجح -والله أعلم - أنها تباع، ويشترى بثمنها مثلها مما ينتفع به; لأنه لا يمكن الانتفاع بها إلا على هذا الوجه، أو تعمر من غلة وقف آخر مع اتحاد الجهة، كما سنبينه في مبحث توحيد الأوقاف.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية