الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        استدل أصحاب هذا القول بما يلي:

        1 - ما جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه: تصدق بأصله، لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث» 2 - ما رواه أبو هريرة عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث إلا من صدقة جارية...» الحديث.

        وجه الاستدلال بهذين الحديثين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين في الحديث الأول أن الوقف لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ووصفه في الثاني بأنه صدقة جارية، وهذا يدل على أن الأصل في الوقف التأبيد والدوام والاستمرار، [ ص: 396 ] وفي الإجارة الطويلة إبطال لهذا الأصل، ودافع لضعاف النفوس من المستأجرين إلى ادعاء ملكية العين الموقوفة، وبالتالي إبطال الوقف بالكلية.

        3 - أن الناظر إنما يلي إجارة الوقف ما دام حيا، والإجارة الطويلة قد تستمر إلى ما بعد الموت، فيكون قد تصرف في خارج حدود ولايته.

        قال ابن القيم في بيان هذه المفاسد: «...وكم قد ملك من الوقوف بهذه الطرق وخرج عن الوقفية بطول المدة، واستيلاء المستأجر فيها على الوقف هو وذريته وورثته سنين بعد سنين، وكم فات البطون اللواحق من منفعة الواقف بالإيجار الطويل... وبالجملة فمفاسد هذه الإجارة تفوت العد» .

        وقال صاحب الإسعاف: «إن المدة إذا طالت تؤدي إلى إبطال الوقف فإن من رآه يتصرف فيها تصرف الملاك على طول الزمان يظنه مالكا» .

        دليل القول الثاني: (يملك الناظر إجارة الوقف مدة طويلة) :

        استدل أصحاب هذا القول بما يلي: أن المستأجر يمكنه استيفاء المنفعة المعقود عليها منها غالبا، فتجوز.

        ونوقش: بأن إمكان استيفاء المنفعة ليس بكاف لجواز إجارة الوقف مدة طويلة; لأنه قد يكون في الإجارة تملك لذات الوقف، كما سبق في أدلة أصحاب القول الأول.

        الترجيح:

        الذي يظهر رجحانه في هذه المسألة - والله أعلم بالصواب - هو القول [ ص: 397 ] الأول بعدم ملكية الناظر لإجارة الوقف مدة طويلة; لقوة ما استدلوا به، ولأن القول به هو الموافق للعادة والعرف، ففي العادة أن الإجارة تطلق على ما إذا كانت مدة الانتفاع قصيرة كالسنة والسنتين، والعادة المطردة في زمن الواقف إذا عرفها تكون بمنزلة شرطه، فينزل الوقف عليها ويمتنع إيجاره مدة أطول من تلك المدة.

        ولما في الإجارة الطويلة من المفاسد الكثيرة، مثل أن تؤدي إلى اندراسه وتملكه.

        وهذا الترجيح فيما إذا لم تكن الإجارة الطويلة ضرورة أو أصلح للوقف، فإن كانت كذلك صحت; لأن مصلحة الوقف مقصودة.

        وسئل الشيخ أبو زرعة: عما يفعله حكام مكة من إجارة الدار الخربة الساقطة مئة سنة ونحوها ممن يقوم بعمارتها، ويقدرون ذلك أجرتها في مدة الإيجار ويأذنون في صرفه في العمارة، ويقرون الدار معه بعد عمارتها على حكم الإجارة السابقة من غير زيادة في الأجرة، هل هذا التصرف حسن يسوغ اعتماده وتكراره أم لا؟ لأن هذه المدة تؤدي إلى تملك الوقف غالبا، وذلك أعظم ضررا من الخراب.

        فأجاب الإمام أبو زرعة بما ملخصه: أن منافع الوقف كمنافع الطلق، يتصرف فيها الناظر بالمصلحة، وقد تقتضي المصلحة تكثير مدة الإجارة وتقليلها، وحينئذ فيجوز إجارة الدار الموقوفة مدة تبقى إليها غالبا، ويختلف ذلك باختلاف الدور وباختلاف البلاد في أحكام ما يبنون به وإتقانه ومدة بقائه غالبا، فما يفعله حكام مكة من إجارة دور الوقف الخربة الساقطة مائة سنة أو نحوها عند الاحتياج لأجرة المدة المذكورة لأجل العمارة حسن، [ ص: 398 ] يسوغ اعتماده إذا لم يكن للوقف حاصل يعمر به، ولا وجد من يقرض القدر المحتاج إليه للعمارة بأقل من أجرة تلك المدة، فإنه لا معنى لإجارة مدة مستقبلة بأجرة حالة من غير احتياج لذلك، وإنما استحسناه وشرعناه لأن فيه بقاء عين الوقف، وهو مقدم على سائر المقاصد» .

        فهذا النص يبين عمل الحكام بمكة المكرمة في أوائل القرن التاسع الهجري في إجارة أرض الوقف مدة طويلة بأجرة يدفعها المستأجر تعمر بها أرض الوقف.

        ***

        التالي السابق


        الخدمات العلمية