الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        1 - أن قوله على أولادي ثم أولاد أولادي، أو على أولادي فأولاد أولادي، يحتمل أمرين:

        الاحتمال الأول: أن المراد بترتيب أولاد أولاده على أولاده ب (ثم) أو الفاء ترتيب جملة على جملة، أي: أن استحقاق جملة الطبقة الثانية (أولاد أولاده) مرتب على انقراض جملة الطبقة الأولى (أولاده) .

        الاحتمال الثاني: أن المراد بترتيب أولاد أولاده على أولاده بـ (ثم) أو الفاء ترتيب فرد على فرد، أي: أن كل فرد من أولاد أولاده يستحق عند عدم والده، لا عند عدم والد غيره.

        [ ص: 174 ] وكلا الاحتمالين وارد في هذه المسألة، وذلك أن الأحكام المرتبة على الأسماء العامة نوعان:

        النوع الأول: ما يثبت لكل فرد من أفراد ذلك العام، نحو قوله تعالى: يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون فإن الخلق ثابت لكل واحد من الناس، وكذلك في قوله تعالى: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين أي: كل والدة ترضع ولدها.

        النوع الثاني: ما يثبت لمجموع تلك الأفراد، كقول الواقف: وقفت على زيد وعمرو وبكر، ثم على المساكين، فإنه ليس بين المساكين وبين أولئك الثلاثة مساواة في العدد حتى يجعل كل واحد منهما مرتبا على الآخر، ولا مناسبة تقتضي أن يعين لزيد هذا المسكين، ولعمرو هذا، ولبكر هذا.

        لكن قد يترجح أحد الاحتمالين على الآخر بأسباب أخرى، ومما يرجح الاحتمال الثاني في هذه المسألة:

        أ - أن أكثر الواقفين ينقلون نصيب كل والد إلى ولده، لا يؤخرون الانتقال إلى انتقال الطبقة، والكثرة دليل القوة، بل الرجحان.

        ب - أن بين الوقف والميراث شبها من جهة أن الانتقال إلى ولد الولد مشروط بعدم الولد فيهما، ومثل هذه العبارة لو أطلقت في الميراث، كما أطلقها الله تعالى في قوله: ولكم نصف ما ترك أزواجكم ، وقوله: [ ص: 175 ] ولهن الربع مما تركتم لم يفهم منها إلا مقابلة التوزيع للأفراد على الأفراد، كما لو قال الفقيه لرجل: مالك ينتقل إلى ورثتك، ثم إلى ورثتهم، فإنه يفهم منه أن مال كل واحد ينتقل إلى وارثه، فليكن قول الواقف هنا كذلك.

        2 - قال شيخ الإسلام: «وإنما الشبهة في أن الولد إذا مات في حياة أبيه وله ولد; ثم مات الأب عن ولد آخر وعن ولد الولد الأول: هل يشتركان؟ أو ينفرد به الأول؟

        الأظهر في هذه المسألة أنهما يشتركان; لأنه إذا كان المراد أن كل ولد مستحق بعد موت أبيه - سواء كان عمه حيا أو ميتا...فمثل هذا الكلام إذا يشترط فيه عدم استحقاق الأب كما قال الفقهاء في ترتيب العصبة: إنهم الابن ثم ابنه ثم الأب ثم أبوه; ثم العم ثم بنو العم; ونحو ذلك; فإنه لا يشترط في الطبقة الثانية إلا عدم استحقاق الأولى. فمتى كانت الثانية موجودة والأولى لا استحقاق لها استحقت الثانية; سواء كانت الأولى استحقت أو لم تستحق، ولا يشترط لاستحقاق الثانية استحقاق الأولى; وذلك لأن الطبقة الثانية تتلقى الوقف من الواقف لا من الثانية فليس هو كالميراث الذي يرثه الابن; ثم ينتقل إلى ابنه وإنما هو كالولاء الذي يورث به فإذا كان ابن المعتق قد مات في حياة المعتق; ورث الولاء ابن ابنه، وإنما يغلط من يغلط في مثل هذه المسألة حين يظن أن الطبقة الثانية تتلقى من التي قبلها ; فإن لم تستحق الأولى شيئا لم تستحق الثانية ، ثم يظنون أن الوالد إذا مات قبل الاستحقاق لم يستحق ابنه; وليس كذلك; بل هم يتلقون من الواقف; حتى لو كانت الأولى محجوبة بمانع من الموانع: مثل أن يشترط [ ص: 176 ] الواقف في المستحقين أن يكونوا فقراء أو علماء أو عدولا، أو غير ذلك ويكون الأب مخالفا للشرط المذكور وابنه متصفا به فإنه يستحق الابن وإن لم يستحق أبوه. كذلك إذا مات الأب قبل الاستحقاق فإنه يستحق ابنه، وهكذا جميع الترتيب في الحضانة وولاية النكاح والمال وترتيب عصبة النسب والولاء في الميراث، وسائر ما جعل المستحقون فيه طبقات ودرجات، فإن الأمر فيه على ما ذكر، وهذا المعنى هو الذي يقصده الواقفون إذا سئلوا عن مرادهم، ومن صرح منهم بمراده فإنه يصرح بأن ولد الولد ينتقل إليه ما ينتقل إلى ولده لو كان حيا، لا سيما والناس يرحمون من مات والده ولم يرث حتى إن الجد قد يوصي لولد ولده; ومعلوم أن نسبة هذا الولد ونسبة ولد ذلك الولد إلى الجد سواء، فكيف يحرم ولد ولده اليتيم ويعطي ولد ولده الذي ليس بيتيم، فإن هذا لا يقصده عاقل، ومتى لم نقل بالتشريك بقي الوقف في هذا الولد وولده ; دون ذرية الولد الذي مات في حياة أبيه، والله أعلم.

        3 - وقال شيخ الإسلام: «إن قوله: على أولاده ثم على أولادهم مقتض الترتيب، وهو أن استحقاق أولاد الأولاد بعد الأولاد، وهنا جمعان: أحدهما مرتب على الآخر، والأحكام المرتبة على الأسماء العامة نوعان: أحدهما: ما يثبت لكل فرد من أفراد ذلك العام سواء قدر وجود الفرد الآخر أو عدمه، والثاني: ما يثبت لمجموع تلك الأفراد; فيكون وجود كل منها شرطا في ثبوت الحكم للآخر.

        مثال الأول: قوله تعالى: يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ، يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ومثال الثاني: قوله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس ، [ ص: 177 ] وكذلك جعلناكم أمة وسطا ، فإن الخلق ثابت لكل واحد من الناس; وكلا منهم مخاطب بالعبادة والطهارة; وليس كل واحد من الأمة أمة وسطا، ولا خير أمة، ثم العموم المقابل بعموم آخر قد يقابل كل فرد من هذا بكل فرد من هذا، كما في قوله: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله فإن كل واحد من المؤمنين آمن بكل واحد من الملائكة والكتب والرسل، وقد يقابل المجموع بالمجموع بشرط الاجتماع منهما; كما في قوله : قد كان لكم آية في فئتين التقتا فإن الالتقاء ثبت لكل منهما حال اجتماعهما، وقد يقابل شرط الاجتماع من أحدهما كقوله: كنتم خير أمة أخرجت للناس فإن مجموع الأمة خير للناس مجتمعين ومنفردين، وقد يقابل المجموع بالمجموع بتوزيع الأفراد على الأفراد، فيكون لكل واحد من العمومين واحد من العموم الآخر كما يقال: لبس الناس ثيابهم وركب الناس دوابهم، فإن كل واحد منهم ركب دابته ولبس ثوبه، وكذلك إذا قيل: الناس يحبون أولادهم، أي: كل واحد يحب ولده; ومن هذا قوله سبحانه: والوالدات يرضعن أولادهن أي : كل والدة ترضع ولدها ; بخلاف ما لو قلت: الناس يعظمون الأنبياء; فإن كل واحد منهم يعظم كل واحد من الأنبياء، فقول الواقف: على أولاده; ثم على أولادهم: قد اقتضى ترتيب أحد العمومين على الآخر، فيجوز أن يريد أن العموم الثاني بمجموعه مرتب على مجموع العموم الأول، وعلى كل فرد من أفراده فلا يدخل شيء من هذا العموم الثاني في الوقف حتى ينقضي جميع أفراد العموم الأول، ويجوز أن [ ص: 178 ] يريد ترتيبا يوزع فيه الأفراد على الأفراد، فيكون كل فرد من أولاد الأولاد داخلا عند عدم والده; لا عند عدم والد غيره; كما في قوله: والوالدات يرضعن أولادهن وقولهم: الناس يحبون أولادهم، واللفظ صالح لكلا المعنيين صلاحا قويا; لكن قد يترجح أحدهما على الآخر بأسباب أخرى كما رجح الجمهور ترتيب الكل على الكل في قوله: وقفت على زيد وعمرو وبكر ثم على المساكين، فإنه ليس بين المساكين وبين أولئك الثلاثة مساواة في العدد حتى يجعل كل واحد مرتبا على الآخر، ولا مناسبة تقتضي أن يعين لزيد هذا المسكين ولعمرو هذا ولبكر هذا; بخلاف قولنا: الناس يحبون أولادهم; فإن المراد هنا من له ولد، فصار أحد العمومين مقاوما للآخر، وفي أولادهم من الإضافة ما اقتضى أن يعين لكل إنسان ولده دون ولد غيره، وكما يترجح المعنى الثاني في قوله سبحانه: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم إلى آخره فإنه لم يحرم على كل واحد من المخاطبين جميع أمهات المخاطبين وبناتهم; وإنما حرم على كل واحد أمه وبنته، وكذلك قوله: ولكم نصف ما ترك أزواجكم فإنه ليس لجميع الأزواج نصف ما ترك جميع النساء، وإنما لكل واحد نصف ما تركت زوجته فقط وكذلك قوله: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم إنما معناه اتبع كل واحد ذريته; ليس معناه أن كل واحد من الذرية اتبع كل واحد من الآباء. وهذا كثير في الكلام: مثل أن يقول: الناس في ديارهم ومع أزواجهم يتصرفون في أموالهم [ ص: 179 ] وينفقون على أولادهم وما أشبه ذلك، ثم الذي يوضح أن هذا المعنى قوي في الوقف ثلاثة أشياء:

        أحدها: أن أكثر الواقفين ينقلون نصيب كل والد إلى ولده لا يؤخرون الانتقال إلى انقضاء الطبقة; والكثرة دليل القوة; بل والرجحان.

        الثاني: أن الوقف على الأولاد يقصد به غالبا أن يكون بمنزلة الموروث الذي لا يمكن بيعه; فإن المقصود الأكبر انتفاع الذرية به على وجه لا يمكنهم إذهاب عينه، وأيضا فإن بين الوقف والميراث هنا شبه من جهة أن الانتقال إلى ولد الولد مشروط بعدم الولد فيهما، ثم مثل هذه العبارة لو أطلقت في الميراث كما أطلقها الله تعالى في قوله : ولكم نصف ما ترك أزواجكم ولهن الربع مما تركتم لما فهم منها إلا مقابلة التوزيع للأفراد على الأفراد، لا مقابلة المجموع بالمجموع، ولا مقابلة كل واحد بكل واحد، ولا مقابلة كل واحد بالمجموع، كما لو قال الفقيه لرجل: مالك ينتقل إلى ورثتك ثم إلى ورثتهم; فإنه يفهم منه أن مال كل واحد ينتقل إلى وارثه، فليكن قوله: على أولادهم ثم على أولاد أولادهم كذلك; إما صلاحا وإما ظهورا.

        الثالث: أن قوله: في أولادهم، محال أن يحصل في هذه الإضافة مقابلة كل فرد بكل فرد، فإن كل واحد من الأولاد ليس مضافا إلى كل واحد من الوالدين; وإنما المعنى: ثم على ما لكل واحد من الأولاد، فإذا قال: وقفت على زيد وعمرو وبكر ثم على أولادهم، فالضمير عائد إلى زيد وعمرو وبكر وهذه المقابلة مقابلة التوزيع، وفي الكلام معنيان: إضافة وترتيب، فإذا كانت مقابلة الإضافة مقابلة توزيع أمكن أن يكون مقابلة الترتيب أيضا مقابلة توزيع، [ ص: 180 ] كما أن قوله: يرضعن أولادهن لما كان معنى إرضاع وإضافة، والإضافة موزعة: كان الإرضاع موزعا، وقوله: ولكم نصف ما ترك أزواجكم لما كان معنى إضافة موزعة: كان الاستحقاق موزعا، وهذا يبين لك أن مقابلة التوزيع في هذا الضرب قوية سواء كانت راجحة أو مرجوحة أو مكافئة.

        وللناس تردد في موجب هذه العبارة عند الإطلاق في الوقف، وإن كان كثير منهم أو أكثرهم يرجحون ترتيب الجمع على الجمع بلا توزيع... فأما صلاح اللفظ للمعنيين فلا ينازع فيه من تصور ما قلناه، وإذا ثبت أنه صالح فمن المعلوم أن اللفظ إذا وصل بما يميز أحد المعنيين الصالحين له وجب العمل به، ولا يستريب عاقل في أن الكلام الثاني يبين أن الواقف قصد أن ينقل نصيب كل والد إلى ولده; وإلا لم يكن فرق بين أن يموت أحد منهم عن ولد أو عن غير ولد، بل لم يكن إلى ذكر الشرط حاجة أصلا، أكثر ما يقال: إنه توكيد لو خلا عن دلالة المفهوم، فيقال: حمله على التأسيس أولى من حمله على التوكيد.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية