الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 43 ] المسألة الثانية: موانع الرجوع عن الوقف المطلق عند من قال بعدم لزوم الوقف:

        لقد سبق أن العلماء مختلفون في عقد الوقف هل هو عقد لازم يلزم بمجرد صيغته؟ أو أنه عقد جائز يصح للواقف الرجوع عنه؟، وأن الراجح أنه يقع لازما، فلا يصح فسخه، لكن من قال بعدم لزوم عقد الوقف ذكروا موانع تمنع من الرجوع في الوقف، وهي كما يلي:

        الأول: أن يحكم بالوقف حاكم، فإذا حكم به حاكم كان ذلك كافيا لمنع نسخ الوقف.

        وبهذا قال أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن.

        وعلة ذلك عندهم: أن لزوم الوقف بالقول، أو ما يقوم مقامه مختلف فيه، وحكم الحاكم يرفع الخلاف.

        ولكنهم يشترطون في حكم الحاكم الذي يمنع الفسخ أن يكون الحكم واردا على لزوم الوقف لا على صحته، فإن ورد على لزوم الوقف منع به الفسخ، وذلك كما لو سلم الواقف الوقف إلى الناظر، ثم طالب بعد ذلك الواقف باسترجاعه فيأبى الناظر; لكونه يرى أن الوقف قد لزم، فيرفعان الأمر إلى القاضي فيحكم القاضي بلزوم الوقف، فإن هذا الوقف لا يصح الرجوع عنه.وأما إذا كان الحكم واردا على صحة الوقف، كما لو ادعت عليه زوجته تعليق طلاقها على وقفه أرضه، فأنكر الزوج صحة الوقف; لكونه علقه بشرط مثلا - وهو يرى أن تعليق الوقف بشرط يفسده - ، فرفعا أمرهما إلى قاض فحكم بصحة الوقف، فإن هذا لا يمنع الرجوع للواقف; لأن الحكم لم يرد [ ص: 44 ] في محل النزاع الذي هو اللزوم، وإنما ورد في محل آخر، وهو صحة الوقف المعلق على شرط.

        الثاني: إخراج الواقف الموقوف من يده إلى الحاكم أو الناظر، فأما إذا لم يخرجه فلا يمنع الفسخ، وبهذا المانع قال محمد بن الحسن، وبه قال أحمد في رواية إلا أن ثمة فرقا بين قول محمد وقول أحمد، فأما أحمد فيرى على هذا القول أن الإخراج كاف لمنع الفسخ، وأما محمد فيرى أن الإخراج وحده لا يكفي بل لا بد أن تضاف إليه الأمور الآتية.

        وعللوا لذلك: بقياسه على الهبة، فكما أن الهبة لا تلزم إلا بالقبض، فإن الوقف لا يلزم إلا بالقبض بجامع أن كلا منهما هبة لا عوض فيها.

        وقد قال المالكية أيضا: باشتراط إخراج الوقف من يد الواقف، كما تقدم، وتقدم أنه يبطل إذا مات الواقف أو أفلس أو مرض مرض الموت قبل الحيازة على ما تقدم تفصيله في مبحث قبض الوقف.

        وقد استدلوا لما ذهبوا إليه: بقصة عطية أبي بكر لعائشة رضي الله عنها.

        الثالث: أن يقسم الوقف قبل القبض إذا كان الوقف مشاعا بين واقفين [ ص: 45 ] إلا إذا كان الوقف لا يقبل القسمة كالحمام والرحى، فإذا لم يقسم المشاع قبل الوقف فلا يلزم.

        وهذا الشرط تابع لاشتراط الإخراج السابق; لأنه من تمامه، وبه قال محمد بن الحسن، وهو قول للحنابلة كما جاء في الإنصاف: «ويتوجه من عدم صحة إجارة المشاع عدم صحة وقفه» .

        ويبدو أن اشتراط الحنابلة لذلك على هذا القول هو اشتراط لصحة العقد لا لزومه، خلافا لمحمد بن الحسن; إذ هو عنده شرط للزوم.

        الرابع: التأبيد، وذلك بأن يوقفه على جهة قربة لا تنقطع، فإذا وقفه على جهة تنقطع لم يلزم الوقف، وصح الرجوع فيه.

        وإلى هذا الشرط ذهب أبو يوسف، ومحمد بن الحسن عليهم رحمة الله.

        لكن محمد بن الحسن يشترط أن يكون التأبيد لفظا في الوقف، وأما أبو يوسف فيشترط أن يكون التأبيد موجودا، سواء أكان ذلك لفظا أو معنى.

        الخامس: ألا يشترط الواقف لنفسه شيئا من منافع الوقف، فإن اشترط لنفسه شيئا من منافع الوقف لم يفت الفسخ.

        وإلى اشتراط هذا الشرط ذهب محمد بن الحسن من الحنفية.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية