الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المبحث الثالث: اشتراط الخيار في الوقف

        صورة ذلك: أن يقول: هذا البيت وقف ولي خيار لمدة يوم أو يومين، ونحو ذلك.

        اختلف العلماء في ذلك:

        القول الأول: صحة الوقف والشرط.

        وبه قال أبو يوسف من الحنفية، واختاره شيخ الإسلام.

        لكن اشترط أبو يوسف أن يبين وقتا معلوما للشرط، فإن كان مجهولا بطل الوقف.

        جاء في الاختيارات: «ويثبت خيار المجلس في البيع، ويثبت خيار الشرط في كل العقود، ولو طالت المدة» .

        القول الثاني: أن الوقف صحيح، والشرط باطل.

        وبه قال بعض الحنفية، والمالكية، وهو قول عند الشافعية، ووجه عند الحنابلة.

        [ ص: 53 ] القول الثالث: بطلان الوقف والشرط معا.

        وبه قال محمد بن الحسن من الحنفية، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة.

        جاء في أوقاف الخصاف: «أرأيت الرجل إذا قال: قد جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة لله عز وجل أبدا على كذا، وعلى كذا، فسمى وجوها على أنه بالخيار في إبطال هذا متى رأيت؟ قال: الوقف باطل لا يجوز» .

        وقال الطرابلسي: «اختلفت أئمتنا فيما لو وقف أرضه، أو داره وشرط الخيار لنفسه...قال محمد: لا يصح الوقف معلوما كان الوقت أو مجهولا، واختاره هلال» .

        وقال النووي: «ولو وقف بشرط الخيار بطل على الصحيح» .

        وجاء في روضة الطالبين: «فلو وقف بشرط الخيار، أو قال: وقفت بشرط أني أبيعه، أو أرجع فيه متى شئت فباطل، واحتجوا له بأنه إزالة ملك إلى الله سبحانه وتعالى كالعتق، أو إلى الموقوف عليه كالبيع والهبة، وعلى التقديرين، فهذا شرط مفسد، لكن في فتاوى القفال أن العتق لا يفسد بهذا الشرط، وفرق بينهما بأن العتق مبني على الغلبة والسراية» .

        [ ص: 54 ] وقال البهوتي: «وإن شرط الواقف في الوقف شرطا فاسدا كخيار فيه بأن قال: وقفته بشرط الخيار أبدا أو مدة معينة لم يصح.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول: (صحة الوقف، والشرط) :

        1 - ما سيأتي من الأدلة على صحة شروط الواقفين، ولزومها.

        2 - ما سبق من أدلة الرضا.

        وجه الدلالة: حيث دلت هذه الأدلة على أنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه، والواقف لم يرض بإخراج ملكه إلا على هذا الوصف.

        أدلة القول الثاني: (بطلان الشرط) :

        استدل أصحاب هذا القول بما يلي:

        1 - النصوص العامة الدالة على لزوم الوقف.

        وجه الدلالة: دلت تلك النصوص على أن الوقف يقتضي اللزوم والدوام والاستمرار، فلا يجوز التصرف بعينه بما يحيله عن الوقفية، واشتراط الخيار فيه ينافي مقتضى عقد الوقف، فلم يصح كما لو شرط أن له بيعه متى شاء.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:

        الوجه الأول: استثناء شرط الخيار; لما تقدم من أدلة الرأي الأول.

        الوجه الثاني: أن الأصل المقيس عليه موضع خلاف بين أهل العلم، كما سيأتي في بيع الوقف واستبداله.

        [ ص: 55 ] 2 - أن وقوف سلف هذه الأمة كانت وقوفا بتاتا في أصلها، وشروطهم فيها أن لا تباع ولا توهب ولا تورث، وإنما يريدون بذلك أنه لا رجعة لهم فيها، فكل ما كان الوقف على وقوفهم لا مثنوية فيه فهو جائز، وما كانت فيه الرجعة فلا يجوز، لأنه خلاف وقوفهم.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:

        الوجه الأول: أن هذه الوقوف لا رجعة فيها; لعدم اشتراطهم الخيار; إذ هذه الوقوف ليس فيها ما يدل على عدم ملك الرجوع مع اشتراط الخيار.

        الوجه الثاني: أنه ورد عن بعضهم الرجوع، كما سلف عن حسان.3 - أن الوقف إزالة ملك لله تعالى، فلم يصح اشتراط الخيار فيه كالعتق.

        ونوقش: بعدم التسليم، فيصح الخيار في العتق.

        4 - القياس على المسجد، وذلك أن اشتراط الخيار في المسجد باطل واتخاذ المسجد صحيح، فكذلك في الوقف.

        ونوقش من وجهين:

        الأول: ونوقش بما نوقش به الدليل السابق.

        الثاني: أنه قياس مع الفارق; إذ المسجد يختلف عن غيره، فمثلا لو وقف أرضا أو بيتا على قوم بأعيانهم اختص بهم ولم يكن لغيرهم مشاركتهم، ولو فاضل بينهم في الغلة جاز، بخلاف المسجد فلو وقفه على قوم بأعيانهم جاز لغيرهم أن يصلي فيه، ولو فاضل بينهم في المسجد لم يصح.

        [ ص: 56 ] الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - هو القول الأول; إذ الأصل في الشروط في العقود الصحة، ومن ذلك عقد الوقف.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية