الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 216 ] المبحث الثاني عشر: مصرف الوقف إذا كان على بعض الورثة

        وفيه مطلبان:

        المطلب الأول: أن يكون الوقف في حال الصحة

        وفيه مسائل:

        المسألة الأولى: أن يقف على بعض أولاده دون بعض:

        تحرير محل النزاع:

        أولا: يشرع للأب أن يقف على أولاده; لما في ذلك من البر والإحسان، وصلة الرحم، ونحو ذلك.

        ثانيا: اتفق الفقهاء - رحمهم الله تعالى - على استحباب التسوية بين الأولاد في الوقف في حال الصحة، وأن التفضيل أو التخصيص لبعضهم على بعض خلاف السنة.

        ثالثا: اتفقوا على أن للأب أن يحابي بعض أولاده في الوقف حال [ ص: 217 ] صحته برضا بقية الأخوة، وذلك لأن المنع من التفضيل إنما هو من أجل المفضولين، فإذا أذنوا زال المحذور.

        رابعا: اختلفوا في وقف الأب لبعض أولاده في الوقف حال صحته من غير رضا البقية، بأن فضل بعضهم على بعض فيها، أو أعطى البعض وحرم البعض الآخر، وفي ذلك أمران:

        الأمر الأول: حكم ذلك من حيث الحرمة والجواز: اختلف العلماء - رحمهم الله - في ذلك على أقوال: القول الأول: وجوب العدل بين الأولاد، وحرمة التخصيص، أو التفضيل.

        وهو قول في مذهب المالكية، وقول في مذهب الشافعية، ورواية عن الإمام أحمد أخذ بها بعض أصحابه.

        وعند بعض المالكية، وبعض الشافعية: إذا وقف على بنيه دون بناته يبطل الوقف، ويعود ملكا للواقف.

        وعند بعض المالكية: إذا وقف على بنيه دون بناته يكون وقفا على البنين والبنات.

        القول الثاني: جواز التفضيل، أو التخصيص بين الأولاد مع الكراهة، [ ص: 218 ] إلا إذا كان التفضيل لسبب يقتضيه كزيادة في الدين، أو اشتغال بالعلم، أو حاجة.

        وهو قول جمهور أهل العلم من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.

        وعند المالكية: يصح الوقف على البنات دون البنين، أو على بعض البنين دون بعض البنات، فإن كان الوقف على البنين دون البنات، فباطل ما لم يحكم حاكم بصحته، أو يحصل حوز قبل المانع فلهم قولان.

        القول الثالث: جواز التفضيل إذا لم يقصد المضارة.

        وهو قول أبي يوسف من الحنفية.

        الأدلة:

        أدلة الرأي الأول: (عدم جواز التفضيل، أو التخصيص) :

        (209) 1 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق الشعبي قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنه وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله قال: «أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا، قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، قال: فرجع أبي فرد عطيته» . [ ص: 219 ] (210) وروى البخاري ومسلم من طريق الشعبي، عن النعمان له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فأرجعه» .

        وفي رواية لمسلم قال: «فاردده» .

        (211) وروى مسلم من طريق حميد بن عبد الرحمن ومحمد بن النعمان، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: «أتى بي أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما، فقال: «أكل بنيك نحلت؟» قال: «لا» ، قال: «فاردده» .

        وروى مسلم من طريق الشعبي، حدثني النعمان بن بشير، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: «فلا تشهدني إذا، فإني لا أشهد على جور.

        (212) وروى مسلم من طريق أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنهما، وفي قوله: «فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حق» .

        (213) وروى مسلم من طريق الشعبي، عن النعمان بن بشير، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: «أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟» قال: بلى، قال: «فلا إذا» .

        وجه الدلالة من وجهين:

        الوجه الأول: قال ابن قدامة: «وهو دليل على التحريم; لأنه صلى الله عليه وسلم سماه [ ص: 220 ] جورا، وأمر برده، وامتنع من الشهادة عليه، والجور حرام، والأمر يقتضي الوجوب» والوقف ملحق بالهبة.

        الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بتقوى الله المؤذن بأن ما فعله ليس من تقوى الله عز وجل.

        الوجه الثالث: أن الحديث دل على أن التعديل طريق للبر، فيفهم منه أن التفضيل طريق للقطع والعقوق، فيكون محرما، كما حرم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها للمعنى نفسه.

        وقال ابن حزم: «فكانت هذه الآثار متواترة متظاهرة; الشعبي، وعروة، ومحمد بن النعمان، وحميد كلهم سمعه من النعمان، ورواه عن هؤلاء - الحفلاء من الأئمة - كلهم متفق على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفسخ تلك الصدقة والعطية وردها، وبين بعضهم أنها ردت - وأنه عليه الصلاة والسلام - أخبر أنها جور، والجور لا يحل إمضاؤه في دين الله تعالى، ولو جاز ذلك لجاز إمضاء كل جور وكل ظلم، وهذا هدم الإسلام جهارة» .

        ونوقش هذا الاستدلال من أوجه:

        الوجه الأول: أن الموهوب للنعمان كان جميع مال ولده، ولذلك منعه، فليس فيه حجة على منع التفضيل.

        ونوقش: بأن كثيرا من طرق حديث النعمان صرح بالبعضية، ففي بعضها: «بعض ماله» ، وفي بعضها: «بعض الموهبة من ماله» ، وفي [ ص: 221 ] بعضها: «أن الموهوب كان غلاما، وأنه وهبه لما سألته الأم الهبة من بعض ماله» ، وهذا يعلم منه على القطع أنه كان له مال غيره.

        الوجه الثاني: اضطرب متن الحديث اضطرابا شديدا، فلا حجة فيه على الوجوب «ففي حديث جابر أن بشيرا شاور النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهبة، فدله على الأولى به» ، وروى الطحاوي نحوه عن النعمان، وهو خلاف جميع ما روي عن النعمان أنه نحله قبل أن يجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية