الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب الثالث: قول الفقهاء: نص الواقف كنص الشارع

        هذا الضابط الذي ذكره الفقهاء ليس على إطلاقه، وإلا فلا يجوز العمل بموجبه إذا خالف نص الواقف نصوص الشريعة، ولذلك حكى العلامة قاسم الحنفي، وشيخ الإسلام ابن تيمية: إجماع الأمة على أن من شروط الواقفين ما هو صحيح معتبر يعمل به، ومنها ما ليس كذلك.

        ولذلك فسر كثير من العلماء قول الفقهاء: نصوص الواقف كنصوص الشارع: بأنها كالنصوص في المفهوم والدلالة على مراد الواقف لا في وجوب العمل بها.

        وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: اتفاق المسلمين على تكفير جاعل نصوص الواقف كنصوص الشارع في وجوب العمل بها، فقال: «وإما أن تجعل نصوص الواقف أو نصوص غيره من العاقدين كنصوص الشارع في وجوب [ ص: 84 ] العمل بها، فهذا كفر باتفاق المسلمين; إذ لا أحد يطاع في كل ما يأمر به من البشر - بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - ، والشروط إن وافقت كتاب الله كانت صحيحة، وإن خالفت كتاب الله كانت باطلة» .

        فلم يجز أحد من أهل العلم العمل بنصوص الواقف إذا خالفت شرع الله تعالى، سواء في ذلك الحنفية) ، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وغيرهم من أهل العلم.

        قال الكمال ابن الهمام الحنفي: «شرائط الواقف معتبرة إذا لم تخالف الشرع، والواقف مالك، له أن يجعل ملكه حيث شاء ما لم يكن معصية» .

        وقال الدردير المالكي: «واتبع وجوبا شرطه إن جاز شرعا، ومراده بالجواز: ما قابل المنع» .

        وقال ابن حجر الهيثمي الشافعي: «إن قلت: شرائط الواقف مراعى كنص الشارع، قلت: محل مراعاته حيث لم يخالف غرض الشارع» .

        وقال: «أما ما خالف الشرع كشرط العزوبة في سكان المدرسة - مثلا - فلا يصح» .

        [ ص: 85 ] وقال ابن البلباني الحنبلي: «ويجب العمل بشرط واقف إن وافق الشرع» .

        وقال ابن القيم رحمه الله: «وكذلك الإثم مرفوع عمن أبطل من شروط الواقفين ما لم يكن إصلاحا، وما كان فيه جنف، أو إثم، ولا يحل لأحد أن يجعل هذا الشرط الباطل المخالف لكتاب الله بمنزلة نص الشارع، ولم يقل هذا أحد من أئمة الإسلام» ، بل قد قال إمام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق» .

        فإنما ينفذ من شروط الواقفين ما كان لله طاعة، وللمكلف مصلحة، وأما ما كان بضد ذلك فلا حرمة له كشرط التعزب والترهب المضاد لشرع الله ودينه... والمقصود: أن الله تعالى رفع الإثم عمن أبطل الوصية الجافة الآثمة، وكذلك هو مرفوع عمن أبطل شروط الواقفين التي هي كذلك، فإذا شرط الواقف القراءة على القبر كانت القراءة في المسجد أولى وأحب إلى الله ورسوله وأنفع للميت، فلا يجوز تعطيل الأحب إلى الله الأنفع لعبده واعتبار ضده.

        وعلى كل حال: فإن ما يختلف فيه العلماء من اعتبار بعض الشروط أو ردها، فإنما هو ناتج عن اختلافهم هل هي من الشروط المخالفة لأمر الله تعالى، أو من الشروط المرغوبة عند الشارع، أو من الشروط المباحة، فالجميع متفقون على عدم اعتبار ما خالف الشرع - وإن اختلفوا في ضابط [ ص: 86 ] ما خالف الشرع، كما أن الجميع متفقون على مراعاة ما وافق الشرع، واختلفوا في اعتبار ما ليس بمكروه ولا مستحب، والله أعلم.

        وذهب بعض الفقهاء إلى أن شرط الواقف كنص الشارع في وجوب العمل، وفي الفهم والدلالة، وممن ذهب إلى ذلك ابن نجيم في قول له، وابن عابدين.

        قال ابن عابدين: «قال في النهر بعد نقله كلام العلامة قاسم: وأراد بشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية الحنبلي، فإنه في موضع آخر عزا هذا إلى أبي عبد الله الدمشقي عن شيخه شيخ الإسلام، وأبو داود عبد الله بن مفلح وشيخه هو ابن تيمية، وهذا كما ترى لا يلزم أن يكون رأيا للحنفية، وأي مانع من أنه كنص الشارع في وجوب العمل به، فإذا شرط عليه أداء خدمة كقراءة أو تدريس وجب عليه ، أما العمل أو الترك لمن يعمل حتى لو لم يعمل أو لم يترك ينبغي أن لا يتردد في إثمه، ولا سيما إن كانت الخدمة مما يلزم بتعطيلها ترك شعيرة من شعائر الإسلام، كالأذان ونحوه فتدبره» .

        * * *

        التالي السابق


        الخدمات العلمية