الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 5 ] الباب الثالث: لزوم الوقف، وشروط الواقفين، ومصرفه

        وفيه ثلاثة فصول:

        الفصل الأول: لزوم الوقف.

        الفصل الثاني: شروط الواقفين.

        الفصل الثالث: مصرف الوقف.

        [ ص: 6 ] [ ص: 7 ] الفصل الأول: لزوم الوقف وفيه مباحث:

        المبحث الأول: ملكية الوقف.

        المبحث الثاني: الرجوع عن الوقف.

        المبحث الثالث: اشتراط الخيار في الوقف.

        المبحث الرابع: اشتراط الواقف بيع الوقف، أو هبته، أو الرجوع فيه.

        المبحث الخامس: ظهور دين على الواقف.

        [ ص: 8 ] [ ص: 9 ] المبحث الأول: ملكية الوقف

        وفيه مطلبان:

        المطلب الأول أن تكون العين موقوفة على معين

        اختلف الفقهاء في ملكية العين في هذه الحالة على أربعة أقوال:

        القول الأول: أن ملكية العين بعد وقفها تنتقل إلى الله - سبحانه وتعالى - أي: لا يكون لها مالك من الآدميين.

        لكن ليس المراد من صيرورة العين الموقوفة على حكم ملك الله تعالى أن تنتقل العين من ملك الواقف إلى ملك الله تعالى بعد أن لم تكن موجودة; لأن الملك الحقيقي للأعيان لم ينفك عن ملك الله تعالى أصلا، فهو خالق الأشياء ومالكها.

        وبهذا قال أبو يوسف، ومحمد بن الحسن من الحنفية، وهو الصحيح من مذهبهم.

        [ ص: 10 ] وبه قال بعض المالكية، وهو المذهب عند الشافعية.

        وبه قال الإمام أحمد في رواية عنه.

        القول الثاني: أن ملكية العين الموقوفة تنتقل بعد وقفها إلى الموقوف عليه، ولكن هذه الملكية لا تبيح التصرف في العين.

        وهذا قول للشافعية، وهو مذهب الحنابلة.

        القول الثالث: أن العين الموقوفة تبقى في ملكية الواقف، ولكن هذا الملك لا يبيح له التصرف في العين، ولا تورث منه.

        وبهذا قال بعض الحنفية، وهو قول للمالكية، وقول ضعيف للشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد.

        [ ص: 11 ] القول الرابع: أن العين الموقوفة تبقى في ملكية الواقف ملكية تامة تبيح له التصرف في عينها، وتورث عنه.

        وبهذا قال الإمام أبو حنيفة في الرواية الصحيحة عنه.

        جاء في حاشية ابن عابدين: (قوله: على حكم ملك الواقف) ... وشرعا عنده - أي: عند أبي حنيفة - حبس العين ومنع الرقبة المملوكة بالقول عن تصرف الغير حال كونها مقتصرة على ملك الوقف، فالرقبة باقية على ملكه في حياته، وملك لورثته بعد وفاته، بحيث يباع ويوهب» .

        الأدلة:

        أدلة القول الأول: (تنتقل إلى الله عز وجل) :

        استدل لهذا القول بما يلي:

        1 - ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر تصدق بمال له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شيء يقال له: ثمغ وكان نخلا، فقال: يا رسول الله إني استفدت مالا، وهو عندي نفيس، فأردت أن أتصدق به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تصدق بأصله لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث، ولكن ينفق ثمره» ، فتصدق به عمر، فصدقته ذلك في سبيل الله.

        وجه الاستدلال من الحديث: أن لفظ الصدقة يقتضي خروج العين الموقوفة عن ملك الواقف لا إلى ملك أحد من العباد; لأن المقصود من الصدقة وجه الله تعالى، فالوقف كالعتق يزول إلى غير مالك، فهذا [ ص: 12 ] الحديث يدل على خروج الوقف عن ملك الواقف وعدم دخوله في ملك الموقوف عليه; إذ لا يباع ولا يوهب ولا يورث، وهذا المنع من التصرف في حق كل من الواقف والجهة الموقوف عليها، ولو ثبتت ملكية أحدهما لاستلزم ذلك جواز التصرف بها من قبل المالك.

        ومن المعلوم أن خصائص الملكية تعطي صاحبها كل أنواع الانتفاع والتصرفات المشروعة في كل نوع من أنواع الملك بحبسه، سواء أكان ذلك استهلاكا للعين أم نقلا للملكية، وهذا الحديث يبين أن الوقف لا سلطان لأحد على بيعه أو هبته أو إرثه، وهذا مما يدل على أنه لا ملك لأحد عليه.

        2 - أن الوقف تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، ومعنى: «تسبيل المنفعة» إطلاق التصرف فيها للموقوف عليه مما يدل على أنه ملك المنفعة، ويفهم منه أنه لم يملك الأصل، والواقف قد أخرجه عن ملكه، فلم يبق له مالك إلا الله لك.

        3 - القياس على العتق، وذلك بجامع إزالة الملك عن العين والمنفعة على وجه القربة بتملك المنفعة، فلم ينتقل إلى صاحبها بل إلى الله سبحانه وتعالى، ولأن كلا منها سبب يزيل التصرف في الرقبة والمنفعة فأزال الملك.

        4 - القياس على المسجد، فكلاهما صدقة موقوفة قصد المتصدق الانتفاع بها على الدوام، ولا خلاف في أن المسجد لا ملك لأحد عليه، كما سيأتي فكذلك ينبغي أن يكون الحكم فيما عداه من الأعيان الموقوفة.

        [ ص: 13 ] 5 - أن انتقال الملكية يفتقر إلى القبول، ولو كانت ملكية الوقف تنتقل إلى الموقوف عليه لافتقر إلى ذلك، ففي عدم افتقاره إليه دليل على عدم ملكيته.

        6 - إن حكم الوقف بعد موت واقفه كحكمه في حياته، وهو لا يبقى له بعد الموت مالك، فدل على أنه لم يكن له في الحياة مالك.

        7 - الفرق بين الوقف والعارية دليل على زوال ملك الوقف، بينما لم يزل في العارية.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية