الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 26 ] المبحث الثاني: الرجوع عن الوقف

        وفيه مطالب:

        المطلب الأول: الرجوع عن الوقف المطلق

        وفيه مسألتان: المسألة الأولى: حكم الرجوع عن الوقف المطلق:

        مثال ذلك: «أرضي وقف على طلاب العلم أو على المسلمين ليجعلوها مسجدا» ، فهل له أن يرجع في تلك الأرض ويتصرف فيها ببيع أو هبة أو نحو ذلك؟

        تحرير محل النزاع:

        لا خلاف بين العلماء أن الأرض إذا حبسها على أنها مسجد لا يجوز أن يرجع فيها ولا يصح ذلك، وكذا المقبرة، على تفصيل للحنفية - سيأتي - واختلفوا فيما عدا ذلك على أقوال:

        [ ص: 27 ] القول الأول: أن الوقف عقد لازم لا يجوز الرجوع فيه، فلا يجوز نسخه بإقالة ولا غيرها.

        وهو قول أبي يوسف، وأكثر متأخري الحنفية، وعليه الفتوى عندهم، وهو قول المالكية، والشافعية، وهو المذهب عند الحنابلة.

        جاء في شرح البهجة الوردية: «(والوقف عقد لازم)، فلا يصح الرجوع عنه، ولا يتوقف على حكم حاكم، ولا على تسليمه إلى الموقوف عليه كالعتق» .

        وجاء في المهذب: «فصل وإذا صح الوقف لزم وانقطع تصرف الواقف فيه...ويزول ملكه عن العين، ومن أصحابنا من خرج فيه قولا آخر أنه لا يزول ملكه عن العين; لأن الوقف حبس العين وتسبيل المنفعة وذلك لا يوجب زوال الملك، والصحيح هو الأول; لأنه سبب يزيل ملكه عن التصرف في العين والمنفعة فأزال الملك كالعتق» .

        وجاء في كشاف القناع: «والوقف عقد لازم) قال في التلخيص وغيره: [ ص: 28 ] أخرجه مخرج الوصية أو لم يخرجه: (لا يجوز فسخه بإقالة ولا غيرها) ; لأنه عقد يقتضي التأبيد فكان من شأنه ذلك (ويلزم) الوقف (بمجرد القول بدون حكم حاكم) ; لقوله صلى الله عليه وسلم: لا يباع أصلها ولا توهب ولا تورث، قال الترمذي: العمل على هذا الحديث عند أهل العلم، وإجماع الصحابة على ذلك وكالعتق، وقوله بمجرد القول جرى على الغالب، وإلا فالفعل مع الدال على الوقف يلزم بمجرده أيضا، ويحرم (ولا يصح بيعه ولا هبته ولا المناقلة به) أي: إبداله ولو بخير منه (نصا) ; للحديث السابق، وقد صنف الشيخ يوسف المرداوي كتابة لطيفة في رد المناقلة وأجاد وأفاد (إلا أن تتعطل منافعه)» .

        وجاء في الشرح الكبير: «والوقف عقد لازم لا يجوز فسخه بإقالة ولا غيرها، ويلزم بمجرد القول; لأنه تبرع يمنع البيع والهبة والميراث فلزم بمجرده كالعتق، وعنه: لا يلزم إلا بالقبض وإخراج الوقف عن يده، اختاره ابن أبي موسى كالهبة والصحيح الأول» .

        لكن عند أبي يوسف يشترط أن يكون الوقف مؤبدا لفظا أو معنى، ويأتي قريبا، وتقدم أنه يشترط عند المالكية حيازة الوقف، وتقدم بيانه.

        القول الثاني: أنه يجوز الرجوع فيه قبل الحيازة، فإذا حيز لزم ولم يجز الرجوع فيه.

        وبه قال ابن أبي ليلى، وكثير من الحنفية، وهو رواية عن الإمام أحمد [ ص: 29 ] قال بها جماعة من الحنابلة، وهو قول لبعض المالكية.

        وقد سبق أن للمالكية تفسيرا خاصا للحيازة لهذا قالوا: إنه لا يجوز الرجوع في الوقف إلا إذا حصل للواقف مانع من مرض أو فلس أو موت قبل عام بعد الحيازة; لأنها المدة التي يحصل بها اشتهار الوقف غالبا.

        قال الدردير: «بخلاف الواقف في الصحة فلا رجوع له فيه قبل المانع» .

        القول الثالث: أنه إذا لم يحكم به حاكم، فللواقف أن يرجع، إلا إذا توفرت شروط أربعة، فإنه يكون لازما: أن يخرجه الواقف من يده، وأن يكون مؤبدا، وألا يكون مشاعا، وأن لا يشترط الواقف لنفسه شيئا من منافع الوقف.

        وبه قال محمد بن الحسن.

        القول الرابع: أنه يجوز الرجوع في الوقف من قبل الواقف أي وقت شاء، ويورث عنه إذا مات، فهو بمنزلة العارية، ما لم يوجد مانع من موانع الرجوع الآتي بيانها.

        وبه قال أبو حنيفة، وزفر.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية