الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الأدلة:

        أدلة القول الأول: (لزوم الوقف) :

        1 - قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ، وقوله تعالى: [ ص: 30 ] والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون وجه الدلالة: دلت الآيتان على وجوب الوفاء، وحفظ الأمانات، ومن ذلك عقد الوقف، فلا يجوز الرجوع فيه; لأن في الرجوع فيه مخالفة لأمر الله تعالى في وجوب الوفاء بالعقود، فكل العقود لا يجوز الرجوع فيها إلا ما قام الدليل المخصص لها.

        2 - حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه أصاب أرضا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصبت أرضا لم أصب مالا قط أنفس منه، فكيف تأمرني به؟، قال : «إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها» ، فتصدق عمر أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث في الفقراء، والقربى، والرقاب، وفي سبيل الله ، والضيف، وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقا غير متمول فيه.

        وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه تصدق بمال له على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقال له ثمغ، وكان نخلا - فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله إني استفدت مالا وهو عندي نفيس فأردت أن أتصدق به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تصدق بأصله، لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ولكن ينفق ثمره» .

        فتصدق به عمر رضي الله عنه، فصدقته تلك في سبيل الله، وفي الرقاب والمساكين، والضيف وابن السبيل ولذي القربى، ولا جناح على من وليه أن يأكل منه بالمعروف، أو يؤكل صديقه غير متمول به.

        وجه الدلالة: في هاتين الروايتين دلالة على أن الوقف عقد لازم لا يجوز [ ص: 31 ] الرجوع عنه، أما دلالة الرواية الأولى، ففي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن شئت حبست أصلها، فإن الحبس يدل على المنع والتأبيد، قال ابن منظور: ويقال وقف فلان أرضه وقفا مؤبدا; إذا جعلها حبيسة لا تباع ولا تورث» .

        قال المطرزي: «وقد جاء حبس - بالتشديد - ومنه قوله عليه السلام لعمر رضي الله عنه في نخل له: حبس الأصل وسبل الثمرة، أي: اجعله وقفا مؤبدا، واجعل ثمرته في سبيل الخير» .

        وأما في الرواية الثانية فقد نص الرسول صلى الله عليه وسلم على لزومه حيث قال: «لا يباع ولا يوهب ولا يورث» ، فإن هذه التقييدات من الرسول صلى الله عليه وسلم تقتضي أنه لا يجوز التصرف بالعين بما يزيل وقفيتها.

        لكن قد يرد على هذا: أنه جاء في بعض الروايات أنه من كلام عمر رضي الله عنه، وليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.

        وأجيب: بأن لا تعارض بين الروايات; إذ يمكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك لعمر رضي الله عنه على سبيل التعليم، ثم إن عمر لما أراد أن يوقف اشترط في الوقف كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم.

        3 - حديث أبي هريرة ، قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فقيل : منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس بن عبد المطلب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله ورسوله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله...» .

        [ ص: 32 ] وجه الدلالة: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «احتبس أدراعه» دلالة على أنه لا يجوز الرجوع في الوقف; لأن الحبس - كما سبق - يدل على المنع والتأبيد.

        4 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده، فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة» .

        والدلالة في هذا الحديث واضحة كالحديثين السابقين.

        قال ابن حجر : «لا يفهم من قوله (وقفت وحبست) إلا التأبيد.

        وذكر الباجي أن: «التحبيس يقتضي التأبيد» .

        ونقل عن القاضي أبي محمد أن لفظ التوقيف صريح في تأبيد الحبس فلا يرجع ملكا أبدا; لأن مفهوم هذه اللفظة في العرف التبتل على وجه التأبيد وتمليك المنافع على الدوام.

        5 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له.

        فالصدقة الجارية هي الوقف - كما سبق - ولا تكون الصدقة جارية إلا إذا كان الوقف لازما وإلا لكانت الصدقة منقطعة، وهذا ما أشار إليه المرغيناني، بقوله: «ولأن الحاجة ماسة إلى أن يلزم الوقف منه ليصل ثوابه إليه على الدوام» .

        [ ص: 33 ] قال الكمال ابن الهمام تعليقا على ذلك: «وقد أشار الشرع إلى إعمال ما يدفع هذه الحاجة» ، ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ثم قال: ولا طريق إلى تحقق دفع هذه الحاجة وإثبات هذه الصدقة الجارية إلا لزومه» .

        وذكر الشوكاني: «أن هذا الحديث يشعر بأن الوقف يلزم ولا يجوز نقضه، ولو جاز النقض لكان الوقف صدقة منقطعة، وقد وصفه في الحديث بعدم الانقطاع» .

        (191) 6 - ما رواه ابن ماجه: حدثنا إسماعيل بن أبي كريمة الحراني، حدثنا محمد بن سلمة، عن أبي عبد الرحيم، حدثني زيد بن أبي أنيسة، عن زيد بن أسلم، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير ما يخلف الرجل من بعده ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة تجري [ ص: 34 ] قال الشوكاني: «والجري يستلزم عدم جواز النقض من الغير» .

        7 - الإجماع: فقد وقع الإجماع من الصحابة على عدم الرجوع عن الوقف، ولذلك قال البغوي: «وللمهاجرين والأنصار أوقاف بالمدينة وغيرها لم ينقل عن أحد منهم أنه أنكره، ولا عن واقف أنه رجع عما فعله لحاجة وغيرها» .

        وقال ابن قدامة في رده على من قال بعدم لزوم الوقف: «هذا القول يخالف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: «لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث» .

        8 - القياس على المسجد، فقد قاسوا لزوم الوقف على لزوم المسجد، ولذلك قال السرخسي عن محمد: ثم استدل بالمسجد فقال: «اتخاذ المسجد يلزم بالاتفاق، وهو إخراج لتلك البقعة عن ملكه من غير أن يدخل في ملك أحد، ولكنها تصير محبوسة بنوع قربة، فكذلك في الوقف» .

        9 - القياس على المقبرة: قال ابن نصر البغدادي المالكي: «ولأنه تحبيس عقار على وجه القربة، فأشبه المسجد والمقبرة» .

        10 - القياس على العتق : قال ابن قدامة في استدلاله على لزوم الوقف: [ ص: 35 ] ولأنه إزالة ملك يلزم بالوصية فإذا نجزه في حال الحياة لزم من غير حكم كالعتق.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية