الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 127 ) قوله تعالى: وما يتلى : فيه سبعة أوجه، وذلك أن موضع "ما" يحتمل أن يكون رفعا، أو نصبا، أو جرا. فالرفع من ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكون مرفوعا عطفا على الضمير المستكن في "يفتيكم" العائد على الله تعالى، وجاز ذلك للفصل بالمفعول والجار والمجرور، مع أن الفصل بأحدهما كاف. والثاني: أنه معطوف على لفظ الجلالة فقط، كذا ذكره أبو البقاء وغيره، وفيه نظر؛ لأنه إما أن يجعل من عطف مفرد على مفرد، فكان يجب أن يثنى الخبر وإن توسط بين المتعاطفين، فيقال: "يفتيانكم"، إلا أن ذلك لا يجوز، ومن ادعى جوازه يحتاج إلى سماع من العرب، فيقال: زيد قائمان وعمرو، ومثل هذا لا يجوز، وإما أن يجعل من عطف الجمل بمعنى أن خبر الثاني محذوف؛ أي: وما يتلى عليكم يفتيكم، فيكون هذا هو الوجه الثالث - وقد ذكروه - فيلزم التكرار. والثالث من أوجه الرفع: أنه رفع بالابتداء، وفي الخبر احتمالان، أحدهما: أنه الجار بعده وهو "في الكتاب" والمراد بما يتلى القرآن، وبالكتاب اللوح المحفوظ، وتكون هذه الجملة معترضة بين البدل والمبدل منه على ما سيأتي بيانه. وفائدة الأخبار بذلك تعظيم المتلو ورفع شأنه، ونحوه: وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم . والاحتمال الثاني: أن الخبر محذوف؛ أي: والمتلو عليكم في الكتاب يفتيكم، أو يبين لكم أحكامهن، فهذه أربعة أوجه. وكلام الزمخشري يحتمل جميع الأوجه، فإنه قال: "ما يتلى" في محل الرفع؛ أي: الله يفتيكم، والمتلو في الكتاب في معنى اليتامى، يعني: قوله: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى [ ص: 101 ] ، وهو من قولك: أعجبني زيد وكرمه. انتهى. يعني: أنه من باب التجريد، إذ المقصود الإخبار بإعجاب كرم زيد، وإنما ذكر زيد ليفيد هذا المعنى الخاص لذلك المقصود أن الذي يفتيهم هو المتلو في الكتاب، وذكرت الجلالة للمعنى المشار [ إليه ]، وقد تقدم تحقيق التجريد في أول البقرة عند قوله: يخادعون الله .

                                                                                                                                                                                                                                      والجر من وجهين، أحدهما: أن تكون الواو للقسم، وأقسم الله بالمتلو في شأن النساء تعظيما له، كأنه قيل: وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب، ذكره الزمخشري. والثاني: أنه عطف على الضمير المجرور بـ "في"؛ أي: يفتيكم فيهن وفيما يتلى، وهذا منقول عن محمد بن أبي موسى، قال: أفتاهم الله فيما سألوا عنه وفيما لم يسألوا، إلا أن هذا ضعيف من حيث الصناعة؛ لأنه عطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، وهو رأي الكوفيين، وقد قدمت ما في ذلك من مذاهب الناس ودلائلهم مستوفى عند قوله: وكفر به والمسجد الحرام ، فعليك بالالتفات إليه. قال الزمخشري: ليس بسديد أن يعطف على المجرور في "فيهن"؛ لاختلاله من حيث اللفظ والمعنى. وهذا سبقه إليه أبو إسحاق، قال: وهذا بعيد بالنسبة إلى اللفظ وإلى المعنى؛ أما اللفظ فإنه يقتضي عطف المظهر على المضمر، وأما المعنى فلأنه ليس المراد أن الله يفتيكم في شأن ما يتلى [ ص: 102 ] عليكم في الكتاب، وذلك غير جائز كما لم يجز في قوله: تساءلون به والأرحام ، يعني: من غير إعادة الجار. وقد أجاب الشيخ عما رد به الزمخشري والزجاج بأن التقدير: يفتيكم في متلوهن وفيما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء، وحذف لدلالة قوله: وما يتلى عليكم ، وإضافة "متلو" إلى ضمير "هن" سائغة؛ إذ الإضافة تكون بأدنى ملابسة لما كان متلوا فيهن صحت الإضافة إليهن، كقوله: مكر الليل والنهار ، لما كان المكر يقع فيهما صحت إضافته إليهما، ومثله قول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      1659 - إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة سهيل أذاعت غزلها في الغرائب



                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذا الجواب نظر.

                                                                                                                                                                                                                                      والنصب بإضمار فعل؛ أي: ويبين لكم ما يتلى؛ لأن "يفتيكم" بمعنى: يبين لكم. واختار الشيخ وجه الجر على العطف على الضمير، مختارا لمذهب الكوفيين، وبأن الأوجه كلها تؤدي إلى التأكيد، وأما وجه العطف على الضمير فيجعله تأسيسا، قال: وإذا دار الأمر بينهما فالتأسيس أولى، وفي جعله هذا الوجه منفردا بالتأسيس دون بقية الأوجه نظر لا يخفى.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "في الكتاب" يجوز فيه ثلاثة أوجه، أحدهما: أنه متعلق بـ "يتلى". والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير المستكن في "يتلى". والثالث: أنه خبر "ما يتلى" على الوجه الصائر إلى أن "ما يتلى" [ ص: 103 ] مبتدأ، فيتعلق بمحذوف أيضا، إلا أن محله على هذا الوجه رفع، وعلى ما قبله نصب.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "في يتامى" فيه خمسة أوجه، أحدها: أنه بدل من "الكتاب" وهو بدل اشتمال، ولا بد من حذف مضاف؛ أي: في حكم يتامى، ولا شك أن الكتاب مشتمل على ذكر أحكامهن. والثاني: أن يتعلق بـ "يتلى". فإن قيل: كيف يجوز تعلق حرفي جر بلفظ واحد ومعنى واحد ؟ فالجواب: أن معناهما مختلف؛ لأن الأولى للظرفية على بابها، والثانية بمعنى الباء للسببية مجازا، أو حقيقة عند من يقول بالاشتراك. وقال أبو البقاء: كما تقول: جئتك في يوم الجمعة في أمر زيد. والثالث: أنه بدل من "فيهن" بإعادة العامل، ويكون هذا بدل بعض من كل. قال الزمخشري: فإن قلت: بم تعلق قوله: "في يتامى النساء" ؟ قلت: في الوجه الأول هو صلة "يتلى"؛ أي: يتلى عليكم في معناهن، ويجوز أن يكون "في يتامى" بدلا من "فيهن"، وأما في الوجهين الأخيرين فبدل لا غير. انتهى. يعني بالوجه الأول: أن يكون "ما يتلى" مرفوع المحل. قال الشيخ: أما ما أجازه في وجه الرفع من كونه صلة "يتلى"، فلا يجوز إلا أن يكون بدلا من "في الكتاب"، أو تكون "في" للسببية؛ لئلا يتعلق حرفا جر بلفظ واحد ومعنى واحد بعامل واحد، وهو ممتنع إلا في البدل والعطف، وأما تجويزه أن يكون بدلا من "فيهن"، فالظاهر أنه لا يجوز للفصل بين البدل والمبدل منه بالمعطوف، ويصير هذا نظير قولك: زيد يقيم في الدار وعمرو في كسر منها؛ ففصلت بين "في الدار" وبين "في كسر" بـ "عمرو"، والمعهود في مثل هذا التركيب: زيد يقيم في الدار في [ ص: 104 ] كسر منها وعمرو. الرابع: أن يتعلق بنفس الكتاب؛ أي: فيما كتب في حكم اليتامى. الخامس: أنه حال فيتعلق بمحذوف، وصاحب الحال هو المرفوع بـ "يتلى"؛ أي: كائنا في حكم يتامى النساء، وإضافة "يتامى" إلى النساء من باب إضافة الخاص إلى العام؛ لأنهن ينقسمن إلى يتامى وغيرهن. وقال الكوفيون: هو من إضافة الصفة إلى الموصوف، إذا الأصل: في النساء اليتامى، وهذا عند البصريين لا يجوز، ويؤولون ما ورد من ذلك. وقال الزمخشري: فإن قلت: إضافة اليتامى إلى النساء ما هي ؟ قلت: هي إضافة بمعنى "من"، نحو: سحق عمامة. قال الشيخ: والذي ذكره النحويون من ذلك إضافة الشيء إلى جنسه، نحو: "خاتم حديد"، ويجوز الفصل، إما بإتباع نحو: "خاتم حديد"، أو تنصبه تمييزا نحو: "خاتم حديدا"، أو تجره بـ "من" نحو: "خاتم من حديد". قال: والظاهر أن إضافة "سحق عمامة، ويتامى النساء" بمعنى اللام، ومعنى اللام الاختصاص. وهذا الرد ليس بشيء، فإنهم ذكروا ضابط الإضافة التي بمعنى "من" أن تكون إضافة جزء إلى كل بشرط صدق اسم الكل على البعض، ولا شك أن "يتامى" بعض من النساء، والنساء يصدق عليهن، وتحرزنا بقولنا: بشرط صدق الكل على البعض، من نحو: "يد زيد"، فإن زيدا لا يصدق على اليد وحدها. وقال أبو البقاء: "في يتامى النساء"؛ أي: في اليتامى منهن، وهذا تفسير معنى لا إعراب.

                                                                                                                                                                                                                                      والجمهور على يتامى جمع يتيمة. وقرأ أبو عبد الله المدني: [ ص: 105 ] "ييامى" بياءين من تحت، وخرجه ابن جني على أن الأصل: "أيامى"، فأبدل من الهمزة ياء، كما قالوا: "فلان ابن أعصر ويعصر"، والهمزة أصل، سمي بذلك لقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1660 - أبني إن أباك غير لونه     كر الليالي واختلاف الأعصر



                                                                                                                                                                                                                                      وهم يبدلون الهمزة من الياء، كقولهم: "قطع الله أداه"، يريدون: يده؛ فلذلك يبدلون منها الياء، و "أيامى" جمع "أيم" بوزن فيعل، ثم كسر على "أيايم"، كسيد وسيايد، ثم قلبت اللام إلى موضع العين، والعين إلى موضع اللام، فصار اللفظ "أيامي"، ثم قلبت الكسرة فتحة لخفتها، فتحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، فصار "أيامى"، فوزنه فيالع. وقال أبو الفتح أيضا: ولو قيل إنه كسر أيم على فعلى، كسكرى ثم كسر ثانيا على "أيامى" لكان وجها حسنا. وسيأتي تحقيق هذه اللفظة عند قوله: وأنكحوا الأيامى منكم إن شاء الله تعالى. وقرئ: "ما كتب الله لهن " بتسمية الفاعل.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وترغبون" فيه أوجه، أحدهما: - وهو الظاهر - أنه معطوف على الصلة عطف جملة مثبتة على جملة منفية؛ أي: اللاتي لا تؤتونهن واللاتي ترغبون أن تنكحوهن، كقولك: جاء الذي لا يبخل ويكرم الضيفان. والثاني: أنه معطوف على الفعل المنفي بـ "لا"؛ أي: لا تؤتونهن ولا ترغبون. والثالث: أنه حال من فاعل "تؤتونهن"؛ أي: لا تؤتونهن وأنتم راغبون في [ ص: 106 ] نكاحهن. ذكر هذين الوجهين أبو البقاء، وفيهما نظر؛ أما الأول فلخلاف الظاهر، وأما الثاني فلأنه مضارع مثبت، فلا تدخل عليه الواو إلا بتأويل لا حاجة لنا به ههنا.

                                                                                                                                                                                                                                      و "أن تنكحوهن" على حذف حرف الجر، ففيه الخلاف المشهور؛ أهي في محل نصب أم جر ؟ واختلف في تقدير حرف الجر، فقيل: هو "في"؛ أي: ترغبون في نكاحهن لجمالهن ومالهن، وقيل: هو "عن"؛ أي: ترغبون عن نكاحهن لقبحهن وفقرهن، وكان الأولياء كذلك؛ إن رأوها جميلة موسرة تزوجها وليها، وإلا رغب عنها. والقول الأول مروي عن عائشة وطائفة كبيرة. وهنا سؤال: وهو أن أهل العربية ذكروا أن حرف الجر يجوز حذفه باطراد مع "أن وأن" بشرط أمن اللبس، يعني: أن يكون الحرف متعينا، نحو: عجبت أن تقوم؛ أي: من أن تقوم، بخلاف "ملت إلى أن تقوم أو عن أن تقوم"، والآية من هذا القبيل. والجواب: أن المعنيين صالحان يدل عليه ما ذكرت لك من سبب النزول، فصار كل من الحرفين مرادا على سبيل البدل.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "والمستضعفين" فيه ثلاثة أوجه، الأول - وهو الظاهر -: أنه معطوف على "يتامى النساء"؛ أي: ما يتلى عليكم في يتامى النساء وفي المستضعفين، والذي تلي عليهم فيهم قوله: يوصيكم الله في أولادكم ، وذلك أنهم كانوا يقولون: لا نورث إلا من يحمي الحوزة ويذب عن الحرم، فيحرمون المرأة والصغير، فنزلت. والثاني: أنه في محل جر عطفا على الضمير في "فيهن"، وهذا رأي كوفي. والثالث: أنه منصوب عطفا على موضع "فيهن"؛ أي: ويبين حال المستضعفين. قال أبو البقاء: وهذا التقدير يدخل في [ ص: 107 ] مذهب البصريين من غير كلفة، يعني: أنه خير من مذهب الكوفيين، حيث يعطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وأن تقوموا" فيه خمسة أوجه؛ الثلاثة المذكورة فيما قبله، فيكون هو كذلك لعطفه على ما قبله، والمتلو عليهم في هذا المعنى قوله: ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ونحوه. والرابع: النصب بإضمار فعل. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار "يأمركم"، بمعنى: ويأمركم أن تقوموا، وهو خطاب للأئمة بأن ينظروا إليهم، ويستوفوا لهم حقوقهم، ولا يدعوا أحدا يهتضم جانبهم؛ فهذا الوجه من النصب غير الوجه الذي ذكرته فيما قبل. والخامس: أنه مبتدأ وخبره محذوف؛ أي: وقيامكم لليتامى بالقسط خير لكم. وأول الأوجه أوجه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية