الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 61 ) قوله تعالى: ويرسل : فيه خمسة أوجه، أحدها: أنه عطف على اسم الفاعل الواقع صلة لأل؛ لأنه في معنى يفعل، والتقدير: وهو الذي يقهر عباده ويرسل، فعطف الفعل على الاسم؛ لأنه في تأويله، ومثله عند بعضهم: إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا ، قالوا: فأقرضوا عطف على "مصدقين" الواقع صلة لأل؛ لأنه في معنى: إن الذين صدقوا وأقرضوا، [ ص: 665 ] وهذا ليس بشيء؛ لأنه يلزم من ذلك الفصل بين أبعاض الصلة بأجنبي، وذلك أن "وأقرضوا" من تمام صلة أل في "المصدقين "، وقد عطف على الموصول قوله: "المصدقات" وهو أجنبي، وقد تقرر غير مرة أنه لا يتبع الموصول إلا بعد تمام صلته. وأما قوله تعالى: فوقهم صافات ويقبضن ، فيقبضن في تأويل اسم؛ أي: وقابضات. ومن عطف الاسم على الفعل لكونه في تأويل الاسم قوله تعالى: يخرج الحي من الميت ومخرج الميت ، وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1940 - فألفيته يوما يبير عدوه ومجر عطاء يستخف المعابرا



                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنها جملة فعلية عطفت على جملة اسمية، وهي قوله: "وهو القاهر". والثالث: أنها معطوفة على الصلة وما عطف عليها، وهو قوله: يتوفاكم ويعلم، وما بعده؛ أي: وهو الذي يتوفاكم ويرسل. الرابع: أنه خبر مبتدأ محذوف، والجملة في محل نصب على الحال. وفي صاحبها وجهان، أظهرهما: أنه الضمير المستكن في "القاهر"، والثاني: أنها حال من الضمير المستكن في الظرف، كذا قال أبو البقاء ، ونقله عن الشيخ، وقال: "وهذا الوجه أضعف الأعاريب"، وقولهما: "الضمير الذي في الظرف" ليس هنا ظرف يتوهم كون هذه الحال من ضمير فيه، إلا قوله: "فوق عباده"، ولكن بأي طريق يتحمل هذا الظرف ضميرا ؟

                                                                                                                                                                                                                                      والجواب: أنه قد تقدم في الآية المشبهة لهذه أن "فوق عباده" فيه خمسة أوجه، ثلاثة منها تتحمل فيها ضميرا، وهي: كونه خبرا ثانيا، أو بدلا من [ ص: 666 ] الخبر، أو حالا، وإنما اضطررنا إلى تقدير مبتدأ قبل "يرسل"؛ لأن المضارع المثبت إذا وقع حالا لم يقترن بالواو، وقد تقدم إيضاح هذا غير مرة. والخامس: أنها مستأنفة سيقت للإخبار بذلك، وهذا الوجه هو في المعنى كالثاني.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "عليكم" يحتمل ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه متعلق بـ يرسل، ومنه: "يرسل عليكما"، "فأرسلنا عليهم"، "وأرسل عليهم طيرا"، إلى غير ذلك. والثاني: أنه متعلق بـ "حفظة"، يقال: حفظت عليه عمله، فالتقدير: ويرسل حفظة عليكم. قال الشيخ: "أي: يحفظون عليكم أعمالهم، كما قال: "وإن عليكم لحافظين"، كما تقول: حفظت عليك ما تعمل". فقوله: "كما قال: إن عليكم لحافظين" تشبيه من حيث المعنى، لا أن "عليكم" تعلق بحافظين؛ لأن "عليكم" هو الخبر لـ "إن" فيتعلق بمحذوف. والثالث: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من "حفظة"؛ إذ لو تأخر لجاز أن يكون صفة لها.

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو البقاء : "عليكم" فيه وجهان، أحدهما: هو متعلق بيرسل. والثاني: أن يكون في نية التأخير، وفيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بنفس "حفظة" والمفعول محذوف؛ أي: يرسل عليكم من يحفظ أعمالكم. والثاني: أن يكون صفة لـ "حفظة"، قدمت فصارت حالا" انتهى. قوله: "والمفعول محذوف"، يعني: مفعول "حفظة"، إلا أنه يوهم أن تقدير المفعول خاص بالوجه الذي ذكره، وليس كذلك بل لا بد من تقديره على كل وجه، و "حفظة" إنما [ ص: 667 ] عمل في ذلك المقدر لكونه صفة لمحذوف، تقديره: ويرسل عليكم ملائكة حفظة؛ لأنه لا يعمل إلا بشروط هذا منها، أعني: كونه معتمدا على موصوف.

                                                                                                                                                                                                                                      و "حفظة" جمع حافظ، وهو منقاس في كل وصف على فاعل صحيح اللام لعاقل مذكر كـ "بار" و "بررة"، و "فاجر" و "فجرة"، و "كامل" و "كملة"، ويقل في غير العاقل كقولهم: غراب ناعق، وغربان نعقة. وتقدم مثل قوله: "حتى إذا جاء"

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "توفته" قرأ الجمهور: "توفته" ماضيا بتاء التأنيث لتأنيث الجمع. وقرأ حمزة: "توفاه" من غير تاء تأنيث، وهي تحتمل وجهين، أظهرهما: أنه ماض، وإنما حذف تاء التأنيث لوجهين، أحدهما: كونه تأنيثا مجازيا، والثاني: الفصل بين الفعل وفاعله بالمفعول. والثاني: أنه مضارع، وأصله: تتوفاه بتاءين، فحذفت إحداهما على خلاف في أيتهما كـ "تنزل" وبابه. وحمزة على بابه في إمالة مثل هذه الألف. وقرأ الأعمش: "يتوفاه" مضارعا بياء الغيبة، اعتبارا بكونه مؤنثا مجازيا أو للفصل، فهي كقراءة حمزة في الوجه الأول من حيث تذكير الفعل، وكقراءته في الوجه الثاني من حيث إنه أتى به مضارعا. وقال أبو البقاء : "وقرئ شاذا: "تتوفاه" على الاستقبال، ولم يذكر بياء ولا تاء.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وهم لا يفرطون" هذه الجملة تحتمل وجهين، أظهرهما: أنها حال من "رسلنا". والثاني: أنها استئنافية سيقت للإخبار عنهم بهذه الصفة، والجمهور على التشديد في "يفرطون"، ومعناه: لا يقصرون. وقرأ عمرو بن [ ص: 668 ] عبيد والأعرج: "يفرطون" مخففا من أفرط، وفيها تأويلان، أحدهما: أنها بمعنى لا يجاوزون الحد فيما أمروا به. قال الزمخشري : "فالتفريط: التواني والتأخير عن الحد، والإفراط: مجاوزة الحد؛ أي: لا ينقصون مما أمروا به ولا يزيدون". والثاني: أن معناه: لا يتقدمون على أمر الله، وهذا يحتاج إلى نقل أن أفرط بمعنى فرط؛ أي: تقدم. وقال الجاحظ قريبا من هذا، فإنه قال: "معنى لا يفرطون: لا يدعون أحدا يفرط عنهم؛ أي: يسبقهم ويفوتهم". وقال أبو البقاء : "ويقرأ بالتخفيف؛ أي: لا يزيدون على ما أمروا به"، وهو قريب مما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية