الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 143 ) قوله تعالى: مذبذبين فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه حال من فاعل "يراءون". الثاني: أنه حال من فاعل "ولا يذكرون". الثالث: أنه منصوب على الذم. والجمهور على "مذبذبين" بميم مضمومة وذالين معجمتين ثانيتهما مفتوحة على أنه اسم مفعول، من ذبذبته فهو مذبذب؛ أي: متحير. وقرأ ابن عباس وعمرو بن فائد بكسر الذال الثانية اسم فاعل، وفيه احتمالان، أحدهما: أنه من "ذبذب" متعديا، فيكون مفعوله محذوفا؛ أي: مذبذبين أنفسهم، أو دينهم، أو نحو ذلك. والثاني: أنه بمعنى تفعلل، نحو: صلصل، فيكون قاصرا، ويدل على هذا الثاني قراءة أبي وما في مصحف عبد الله: "متذبذبين"؛ فلذلك يحتمل أن تكون قراءة ابن عباس بمعنى متذبذبين. وقرأ الحسن البصري: "مذبذبين" بفتح الميم. قال ابن عطية: [ ص: 128 ] وهي مردودة، ولعمري لقد صدق، ولا ينبغي أن تصح عنه. واعتذر الشيخ عنها لأجل فصاحة الحسن، واحتجاج الناس بكلامه بأن فتح الميم لأجل إتباعها بحركة الذال، قال: وإذا كانوا قد أتبعوا في "منتن" حركة الميم بحركة التاء مع الحاجز بينهما، وفي نحو "منحدر"، أتبعوا حركة الدال بحركة الراء حالة الرفع مع أن حركة الإعراب غير لازمة، فلأن يتبعوا في نحو "مذبذبين" أولى. وهذا فاسد؛ لأن الإتباع في الأمثلة التي أوردها ونظائرها، إنما هو إذا كانت الحركة قوية، وهي الضمة والكسرة، وأما الفتحة فخفيفة، فلم يتبعوا لأجلها. وقرأ ابن القعقاع بدالين مهملين من الدبة، وهي الطريقة، يقال: خلني ودبتي؛ أي: طريقتي. قال:


                                                                                                                                                                                                                                      1668 - طها هذربان قل تغميض عينه على دبة مثل الخنيف المرعبل



                                                                                                                                                                                                                                      وفي حديث ابن عباس: "اتبعوا دبة قريش"؛ أي: طريقها، فالمعنى على هذه القراءة: أن يأخذ بهم تارة دبة، وتارة دبة أخرى، فيتبعون متحيرين غير ماضين على طريق واحد.

                                                                                                                                                                                                                                      ومذبذب وشبهه، نحو: "مكبكب، ومكفكف" مما ضعف أوله وثانيه، وصح المعنى بإسقاط ثالثه فيه مذاهب، أحدهما: - وهو قول جمهور البصريين - أن الكل أصول؛ لأن أقل البنية ثلاثة أصول، وليس أحد المكررين أولى بالزيادة من الآخر. الثاني: - ويعزى للزجاج - أن ما صح إسقاطه زائدة. الثالث: - وهو قول الكوفيين - أن الثالث بدل من تضعيف الثاني، ويزعمون أن أصل كفكف: "كفف" بثلاث فاءات، وذبذب: "ذبب" بثلاث باءات، فاستثقل توالي [ ص: 129 ] ثلاثة أمثال، فأبدلوا الثالث من جنس الأول، ولهذه المذاهب موضوع غير هذا حررت مباحثهم فيه، أما إذا لم يصح المعنى بحذف الثالث، نحو: "سمسم، ويؤيؤ، ووعوع"، فإن الكل يزعمون أصالة الجميع. والذبذبة في الأصل: الاضطراب والتردد بين حالتين. قال النابغة:


                                                                                                                                                                                                                                      1669 - ألم تر أن الله أعطاك سورة     ترى كل ملك دونها يتذبذب

                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر:


                                                                                                                                                                                                                                      1670 - خيال لأم السلسبيل ودونها     مسيرة شهر للبعير المذبذب

                                                                                                                                                                                                                                      بكسر الذال الثانية. قال ابن جني: أي القلق الذي لا يستقر. قال الزمخشري: وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين؛ أي: يزاد ويدفع، فلا يقر في جانب واحد، كما يقال: فلان يرمى به الرحوان، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب، كأن المعنى: كلما مال إلى جانب ذب عنه.

                                                                                                                                                                                                                                      و "بين" معمول لقوله: "مذبذبين"، و "ذلك" إشارة إلى الكفر والإيمان المدلول عليهما بذكر الكافرين والمؤمنين، ونحو: [ ص: 130 ]


                                                                                                                                                                                                                                      1671 - إذا نهي السفيه جرى إليه      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      أي: إلى السفه؛ لدلالة لفظ السفيه عليه. وقال ابن عطية: أشير إليه، وإن لم يجز له ذكر لتضمن الكلام له، نحو: حتى توارت بالحجاب ، كل من عليها فان ، يعني: توارت الشمس، وكل من على الأرض. قال الشيخ: وليس كذلك، بل تقدم ما يدل عليه. وذكر ما قدمته. وأشير بـ "ذلك"، وهو مفرد لاثنين لما تقدم في قوله: عوان بين ذلك ، قوله: لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، "إلى" في الموضعين متعلقة بمحذوف، وذلك المحذوف هو حال حذف لدلالة المعنى عليه، والتقدير: مذبذبين لا منسوبين إلى هؤلاء ولا منسوبين إلى هؤلاء، فالعامل في الحال نفس "مذبذبين". قال أبو البقاء: وموضع "لا إلى هؤلاء" نصب على الحال من الضمير في مذبذبين؛ أي: يتذبذبون متلونين. وهذا تفسير معنى لا إعراب.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية