الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 25 ) قوله تعالى: ومنهم من يستمع : راعى لفظ "من" فأفرد، ولو راعى المعنى لجمع، كقوله في موضع آخر: "ومنهم من [ ص: 576 ] يستمعون"، وقوله: وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه إلى آخره، حمل على معناها.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وجعلنا": "جعل" هنا يحتمل أن يكون للتصيير فيتعدى لاثنين، أولهما "أكنة"، والثاني الجار قبله، فيتعلق بمحذوف؛ أي: صيرنا الأكنة مستقرة على قلوبهم. ويحتمل أن يكون بمعنى خلق فيتعدى لواحد، ويكون الجار قبله حالا فيتعلق بمحذوف؛ لأنه لو تأخر لوقع صفة لـ "أكنة". ويحتمل أن يكون بمعنى "ألقى"، فتتعلق "على" بها، كقولك: "ألقيت على زيد كذا"، وقوله: وألقيت عليك محبة مني .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الجملة تحتمل وجهين، أظهرهما: أنها مستأنفة سيقت للإخبار بما تضمنته من الختم على قلوبهم وسمعهم. ويحتمل أن تكون في محل نصب على الحال، والتقدير: ومنهم من يستمع في حال كونه مجعولا على قلبه كنان وفي أذنه وقر، فعلى الأول يكون قد عطف جملة فعلية على اسمية، وعلى الثاني تكون الواو للحال، و "قد" مضمرة بعدها عند من يقدرها قبل الماضي الواقع حالا.

                                                                                                                                                                                                                                      والأكنة: جمع كنان: وهو الوعاء الجامع. قال:


                                                                                                                                                                                                                                      1883 - إذا ما انتضوها في الوغى من أكنة حسبت بروق الغيث تأتي غيومها



                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم: "الكن - بالكسر - ما يحفظ فيه الشيء، وبالفتح المصدر. يقال: كننته كنا؛ أي: جعلته في كن، وجمع على أكنان، قال تعالى: "من الجبال أكنانا". والكنان: الغطاء الساتر، والفعل من هذه المادة [ ص: 577 ] يستعمل ثلاثيا ورباعيا، يقال: كننت الشيء، وأكننته كنا، وأكنانا، إلا أن الراغب فرق بين فعل وأفعل، فقال: "وخص كننت بما يستر من بيت أو ثوب أو غير ذلك من الأجسام، قال تعالى: كأنهن بيض مكنون ، وأكننت بما يستر في النفس، قال تعالى: أو أكننتم في أنفسكم ". قلت: ويشهد لما قال قوله أيضا: إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون ، وقوله تعالى: ما تكن صدورهم . وكنان يجمع على أكنة في القلة والكثرة لتضعيفه، وذلك أن فعالا وفعالا بفتح الفاء وكسرها يجمع في القلة على أفعلة كأحمرة وأقذلة، وفي الكثرة على فعل كحمر وقذل، إلا أن يكون مضاعفا كـ "بتات" و "كنان"، أو معتل اللام كخباء وقباء، فيلتزم جمعه على أفعلة، ولا يجوز على فعل إلا في قليل من الكلام، كقولهم: عنن وحجج، في جمع عنان وحجاج.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "أن يفقهوه" في محل نصب على المفعول من أجله، وفيه تأويلان سبقا، أحدهما: كراهة أن يفقهوه، وهو رأي البصريين، والثاني: حذف "لا"؛ أي: أن لا يفقهوه، وهو رأي الكوفيين . [ ص: 578 ]

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وقرا" عطف على "أكنة" فينصب انتصابه؛ أي: وجعلنا في آذانهم وقرا. و " في آذانهم " كقوله: "على قلوبهم". وقد تقدم أن "جعل" يحتمل معاني ثلاثة، فيكون هذا الجار مبنيا عليها من كونه مفعولا ثانيا قدم، أو متعلقا بها نفسها أو حالا.

                                                                                                                                                                                                                                      والجمهور على فتح الواو من "وقرا"، وقرأ طلحة بن مصرف بكسرها، والفرق بين الوقر والوقر: أن المفتوح هو الثقل في الأذن، يقال منه: وقرت أذنه بفتح القاف وكسرها، والمضارع تقر وتوقر بحسب الفعلين كـ "تعد وتوجل". وحكى أبو زيد: أذن موقورة، وهو جار على القياس، ويكون فيه دليل على أن وقر الثلاثي يكون متعديا، وسمع "أذن موقرة"، والفعل على هذا أوقرت رباعيا كأكرم. والوقر - بالكسر -: الحمل للحمار والبغل ونحوهما، كالوسق للبعير، قال تعالى: "فالحاملات وقرا"، فعلى هذا قراءة الجمهور واضحة؛ أي: وجعلنا في آذانهم ثقلا؛ أي: صمما. وأما قراءة طلحة، فكأنه جعل آذانهم وقرت من الصمم كما توقر الدابة بالحمل، والحاصل أن المادة تدل على الثقل والرزانة، ومنه: الوقار للتؤدة والسكينة، وقوله تعالى: "وفي آذانهم وقرا" فيه الفصل بين حرف العطف وما عطفه بالجار مع كون العاطف على حرف واحد، وهي مسألة خلاف تقدم تحقيقها في قوله: أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ، والظاهر أن هذه الآية ونظائرها مثل قوله: آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، ليس مما فصل فيه بين العاطف ومعطوفه. وقد حققت جميع ذلك في الموضع المشار إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "حتى إذا جاءوك" قد تقدم الكلام في "حتى" الداخلة على "إذا" [ ص: 579 ] في أول النساء. وقال أبو البقاء هنا: "إذا" في موضع نصب بجوابها وهو "يقول"، وليس لـ "حتى" هنا عمل، وإنما أفادت معنى الغاية كما لا تعمل في الجمل". وقال الحوفي: "حتى" غاية، و "يجادلونك" حال، و "تقول" جواب "إذا" وهو العامل في "إذا". وقال الزمخشري : "هي "حتى" التي تقع بعدها الجمل، والجملة قوله: "إذا جاءوك يجادلونك يقول"، و "يجادلونك" في موضع الحال، ويجوز أن تكون الجارة، ويكون "إذا جاءوك" في محل الجر بمعنى: حتى وقت مجيئهم، ويجادلونك حال، وقوله: "يقول الذين كفروا" تفسير له، والمعنى: أنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك، وفسر مجادلتهم بأنهم يقولون: إن هذا إلا أساطير الأولين.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: "وقد وفق الحوفي، وأبو البقاء ، وغيرهما للصواب في ذلك، ثم ذكر عبارة أبي البقاء والحوفي". وقال أيضا: "و "حتى" إذا وقع بعدها "إذا" يحتمل أن تكون بمعنى الفاء، ويحتمل أن تكون بمعنى إلى أن، فيكون التقدير: فإذا جاؤوك يجادلونك يقول، أو يكون التقدير: وجعلنا على قلوبهم أكنة، وكذا إلى أن قالوا: إن هذا إلا أساطير الأولين، وقد تقدم أن "يجادلونك" حال من فاعل "جاؤوك"، و "يقول": إما جواب "إذا"، وإما مفسرة للمجيء كما تقدم تقريره.

                                                                                                                                                                                                                                      و "أساطير" فيه أقوال، أحدها: أنه جمع لواحد مقدر، واختلف في ذلك المقدر، فقيل: أسطورة، وقيل: أسطارة، وقيل: أسطور، وقيل: أسطار، [ ص: 580 ] وقيل: إسطير. وقال بعضهم: بل لفظ بهذه المفردات. والثاني: أنه جمع جمع، فأساطير جمع أسطار، وأسطار جمع سطر بفتح الطاء، وأما سطر بسكونها فجمعه في القلة على أسطر، وفي الكثرة على سطور، كفلس وأفلس وفلوس. والثالث: أنه جمع جمع الجمع، فأساطير جمع أسطار، وأسطار جمع أسطر، وأسطر جمع سطر، وهذا مروي عن الزجاج. وهذا ليس بشيء، فإن "أسطار" ليس جمع أسطر، بل هما مثالا جمع قلة. الرابع: أنه اسم جمع، قال ابن عطية : "وقيل: هو اسم جمع لا واحد له من لفظه". وهذا ليس بشيء؛ لأن النحويين قد نصوا على إذا كان على صيغة تخص الجموع لم يسموه اسم جمع، بل يقولون: هو جمع كعباديد وشماطيط. وظاهر كلام الراغب أن أساطير جمع سطر بفتح الطاء، فإنه قال: "وجمع سطر - يعني: بالفتح - أسطار وأساطير". وقال المبرد: "هي جمع أسطورة نحو: أرجوحة وأراجيح، وأحدوثة وأحاديث". ومعنى الأساطير: الأحاديث الباطلة والترهات مما لا حقيقة له.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية