الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 4 ) وقوله تعالى: يسألونك ماذا أحل لهم قد تقدم الكلام [ ص: 201 ] على "ماذا"، وما قيل فيها، فليلتفت إليه. وقوله: "لهم" بلفظ الغيبة؛ لتقدم ضمير الغيبة في قوله تعالى: "يسألونك"، ولو قيل في الكلام: "ماذا أحل لنا"، لكان جائزا على حكاية الجملة، كقولك: "أقسم زيد ليضربن ولأضربن" بلفظ الغيبة والتكلم، إلا أن ضمير المتكلم يقتضي حكاية ما قالوا، كما أن "لأضربن" يقتضي حكاية الجملة المقسم عليها. و "ماذا أحل" هذا الاستفهام معلق للسؤال، وإن لم يكن السؤال من أفعال القلوب، إلا أنه كان سبب العلم، والعلم يعلق، فكذلك سببه، وقد تقدم تحرير القول فيه في البقرة. وقال الزمخشري هنا: في السؤال معنى القول، فلذلك وقع بعده "ماذا أحل لهم"، كأنه قيل: يقولون ماذا أحل لهم ؟ ولا حاجة إلى تضمين السؤال معنى القول، لما تقدم من أن السؤال يعلق بالاستفهام كمسببه. وقال ابن الخطيب: لو كان حكاية لكلامهم لكانوا قد قالوا: ماذا أحل لهم، ومعلوم أن ذلك باطل لا يقولونه، وإنما يقولون: ماذا أحل لنا، بل الصحيح أنه ليس حكاية لكلامهم بعبارتهم، بل هو بيان كيفية الواقعة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وما علمتم" في "ما" هذه ثلاثة أوجه، أحدها: أنها موصولة بمعنى الذي، العائد محذوف؛ أي: ما علمتموه، ومحلها الرفع عطفا على مرفوع ما لم يسم فاعله؛ أي: وأحل لكم صيد، أو أخذ ما علمتم، فلا بد من حذف هذا المضاف. والثاني: أنها شرطية، فمحلها رفع بالابتداء، والجواب قوله: "فكلوا". قال الشيخ: وهذا أظهر؛ لأنه لا إضمار فيه. والثالث: أنها موصولة أيضا ومحلها الرفع بالابتداء، والخبر قوله: "فكلوا"، وإنما دخلت الفاء تشبيها للموصول باسم الشرط. [ ص: 202 ]

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "من الجوارح" في محل نصب على الحال، وفي صاحبها وجهان، أحدهما: أنه الموصول وهو "ما". والثاني: أنه الهاء العائدة على الموصول، وهو في المعنى كالأول. والجوارح: جمع "جارحة"، والهاء للمبالغة، سميت بذلك لأنها تجرح الصيد غالبا، أو لأنها تكسب، والجرح: الكسب، ومنه: ويعلم ما جرحتم بالنهار . والجارحة: صفة جارية مجرى الأسماء؛ لأنها لم يذكر موصوفها غالبا. وقرأ عبد الله بن عباس وابن الحنفية: "علمتم" مبنيا للمفعول، وتخريجها أن يكون ثم مضاف محذوف؛ أي: وما علمكم الله من أمر الجوارح.

                                                                                                                                                                                                                                      "مكلبين" حال من فاعل "علمتم"، ومعنى "مكلبين" مؤدبين، ومضرين، ومعودين. قال الشيخ: وفائدة هذه الحال - وإن كانت مؤكدة لقوله: "علمتم"، فكان يستغني عنها - أن يكون المعلم ماهرا بالتعليم حاذقا فيه موصوفا به. انتهى. وفي جعله هذه الحال مؤكدة نظر، بل هي مؤسسة. واشتقت هذه الحال من لفظ "الكلب" هذا الحيوان المعروف، وإن كانت الجوارح يندرج فيها غيره حتى سباع الطيور تغليبا له؛ لأن الصيد أكثر ما يكون به عند العرب. أو اشتقت من “الكلب" وهو الضراوة، يقال: هو كلب بكذا؛ أي: حريص، وبه كلب؛ أي: حرص، وكأنه أيضا مشتق من الكلب هذا الحيوان لحرصه، أو اشتقت من الكلب، والكلب يطلق على السبع أيضا، ومنه الحديث: " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك "، فأكله الأسد. قال الشيخ: وهذا الاشتقاق لا يصح؛ لأن كون الأسد كلبا هو وصف فيه، والتكليب من [ ص: 203 ] صفة المعلم، والجوارح هي سباع بنفسها وكلاب بنفسها لا بجعل المعلم. ولا طائل تحت هذا الرد. وقرئ: "مكلبين" بتخفيف اللام، وفعل وأفعل قد يشتركان في معنى واحد، إلا أن "كلب" بالتشديد معناه: علمها وضراها، و "أكلب" معناه: صار ذا كلاب، على أن الزجاج قال: رجل مكلب - يعني: بالتشديد - ومكلب، يعني: من أكلب، وكلاب، يعني: بتضعيف اللام؛ أي: صاحب كلاب. وجاءت جملة الجواب هنا فعلية، وجملة السؤال اسمية، وهي: ماذا أحل ؟ فيه جواب لها من حيث المعنى لا من حيث اللفظ؛ إذ لم يتطابقا في الجنس.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "تعلمونهن" فيه أربعة أوجه، أحدها: أنها جملة مستأنفة. الثاني: أنها جملة في محل نصب على أنها حال ثانية من فاعل "علمتم". ومنع أبو البقاء ذلك؛ لأنه لا يجيز للعامل أن يعمل في حالين، وتقدم الكلام في ذلك. الثالث: أنها حال من الضمير المستتر في "مكلبين"، فتكون حالا من حال وتسمى المتداخلة، وعلى كلا التقديرين المتقدمين فهي حال مؤكدة؛ لأن معناها مفهوم من "علمتم" ومن "مكلبين". والرابع: أن تكون جملة اعتراضية، وهذا على جعل "ما" شرطية أو موصولة، خبرها "فكلوا"، فيكون قد اعترض بين الشرط وجوابه، أو بين المبتدإ وخبره. فإن قيل: هل يجوز وجه خامس، وهو أن تكون هذه الجملة حالا من الجوارح؛ أي: من الجوارح حال كونها تعلمونهن؛ لأن في الجملة ضمير ذي الحال ؟ فالجواب: أن ذلك لا يجوز؛ لأن ذلك يؤدي إلى الفصل بين هذه الحال وبين صاحبها بأجنبي، وهو "مكلبين" الذي هو حال من فاعل "علمتم". [ ص: 204 ]

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "مما أمسكن" في "من" وجهان، أظهرهما: أنها تبعيضية، وهي صفة لموصوف محذوف، هو مفعول الأكل؛ أي: فكلوا شيئا مما أمسكنه عليكم. والثاني: أنها زائدة، وهو قياس قول الأخفش، فعلى الأول تتعلق "من" بمحذوف، وعلى الثاني لا تعلق لها، و "ما" موصولة أو نكرة موصوفة، والعائد محذوف، وعلى كلا التقديرين؛ أي: أمسكته، كما تقدم. والنون في "أمسكن" للجوارح. و "عليكم" متعلق بـ "أمسكن"، والاستعلاء هنا مجاز.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "عليه" في هذه الهاء ثلاثة أوجه، أحدها: أنها تعود على المصدر المفهوم من الفعل وهو الأكل، كأنه قيل: واذكروا اسم الله على الأكل، ويؤيده ما في الحديث: " سم الله، وكل مما يليك ". والثاني: أنه يعود على "ما علمتم"؛ أي: اذكروا اسم الله على الجوارح عند إرسالها على الصيد، وفي الحديث: " إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله ". والثالث: أنها تعود على "ما أمسكن"؛ أي: اذكروا اسم الله ما أدركتم ذكاته مما أمسكته عليكم الجوارح.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية