الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 10 ) قوله تعالى: ولقد استهزئ قرأ حمزة، وعاصم، وأبو عمرو بكسر الدال على أصل التقاء الساكنين، والباقون بالضم على الإتباع، ولم يبال بالساكن؛ لأنه حاجز غير حصين، وقد قررت هذه القاعدة بدلائلها في البقرة عند قوله: "فمن اضطر". و "برسل" متعلق بـ "استهزئ". و "من قبلك" صفة لرسل، وتأويله ما تقدم في وقوع "من قبل" صلة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: فحاق بالذين سخروا فاعل حاق: "ما كانوا"، و "ما" يجوز أن تكون موصولة اسمية، والعائد الهاء في "به"، و "به" يتعلق بـ "يستهزئون"، و "يستهزئون" خبر لـ "كان"، و "منهم" متعلق بسخروا، على أن الضمير يعود على الرسل، قال تعالى: إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم ، ويجوز أن يتعدى بالباء نحو: سخرت به، ويجوز أن يتعلق "منهم" بمحذوف أنه حال من فاعل "سخروا"، والضمير في "منهم" يعود على الساخرين. وقال أبو البقاء : "على المستهزئين". وقال الحوفي: "على أمم الرسل".

                                                                                                                                                                                                                                      وقد رد الشيخ على الحوفي بأنه يلزم إعادته على غير مذكور. وجوابه أنه في قوة المذكور، ورد على أبي البقاء بأنه يصير المعنى: فحاق بالذين سخروا كائنين من المستهزئين، فلا حاجة إلى هذه الحال؛ لأنها مفهومة من [ ص: 546 ] قوله: "سخروا". وجوزوا أن تكون "ما" مصدرية، ذكره الشيخ، ولم يتعرض للضمير في "به"، والذي يظهر أنه يعود على الرسول الذي يتضمنه الجمع، فكأنه قيل: فحاق بهم عاقبة استهزائهم بالرسول المندرج في جملة الرسل، وأما على رأي الأخفش وابن السراج فتعود على "ما" مصدرية؛ لأنها اسم عندهما.

                                                                                                                                                                                                                                      وحاق ألفه منقلبة عن ياء بدليل يحيق، كباع يبيع، والمصدر حيق وحيوق وحيقان، كالغليان والنزوان. وزعم بعضهم أنه من الحوق، وهو المستدير بالشيء، وبعضهم أنه من الحق، فأبدلت إحدى القافين ياء كتظننت، وهذان ليسا بشيء، أما الأول فلاختلاف المادة إلا أن يريدوا الاشتقاق الأكبر، وأما الثاني فلأنها دعوى مجردة من غير دليل. ومعنى حاق: أحاط، وقيل: عاد عليه وبال مكره، قاله الفراء . وقيل: دار، والمعنى: يدور على الإحاطة والشمول، ولا تستعمل إلا في الشر. قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      1871 - فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم وحاق بهم من بأس ضبة حائق



                                                                                                                                                                                                                                      وقال الراغب: "قيل: وأصله: حق، فقلب نحو: زل وزال، وقد قرئ: "فأزلهما، وأزلهما"، وعلى هذا ذمة وذامه". وقال الأزهري: "جعل أبو إسحاق "حاق" بمعنى أحاط، وكأن مأخذه من الحوق، وهو ما استدار بالكمرة". قال: "وجائز أن يكون الحوق فعلا من حاق يحيق، كأنه في [ ص: 547 ] الأصل: حيق، فقلبت الياء واوا لانضمام ما قبلها". وهل يحتاج إلى تقدير مضاف قبل "ما كانوا" ؟ نقل الواحدي عن أكثر المفسرين ذلك؛ أي: عقوبة ما كانوا، أو جزاء ما كانوا، ثم قال: "وهذا إذا جعلت "ما" عبارة عن القرآن والشريعة، وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وإن جعلت "ما" عبارة عن العذاب الذي كان صلى الله عليه وسلم يوعدهم به إن لم يؤمنوا، استغنيت عن تقدير المضاف، والمعنى: فحاق بهم العذاب الذي يستهزئون به وينكرونه.

                                                                                                                                                                                                                                      والسخرية: الاستهزاء والتهكم، يقال: سخر منه وبه، ولا يقال إلا استهزاء به، فلا يتعدى بـ "من". وقال الراغب: "سخرته: إذا سخرته للهزء منه، يقال: رجل سخرة بفتح الخاء: إذا كان يسخر من غيره، وسخرة بسكونها: إذا كان يسخر منه، ومثله: ضحكة وضحكة، ولا ينقاس. وقوله: "فاتخذتموهم سخريا" يحتمل أن يكون من التسخير، وأن يكون من السخرية". وقد قرئ: "سخريا، وسخريا" بضم السين وكسرها. وسيأتي له مزيد بيان في موضعه إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية