الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 96 ) قوله تعالى: وطعامه نسق على "صيد"؛ أي: أحل لكم الصيد وطعامه، فالصيد: الاصطياد، والطعام: الإطعام؛ أي: إنه اسم مصدر، ويقدر المفعول حينئذ محذوفا؛ أي: إطعامكم إياه أنفسكم، ويجوز أن يكون الصيد بمعنى: المصيد. والهاء في "طعامه" تعود على البحر على هذا؛ أي: أحل لكم مصيد البحر وطعام البحر، فالطعام على هذا غير الصيد، وفيه خلاف بين أهل التفسير ذكرته في موضعه، ويجوز أن تعود الهاء على هذا الوجه أيضا على الصيد بمعنى المصيد، ويجوز أن يكون "طعام" بمعنى [ ص: 429 ] مطعوم، ويدل على ذلك قراءة ابن عباس وعبد الله بن الحرث: "وطعمه" بضم الميم وسكون العين.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "متاعا" في نصبه وجهان، أحدهما: أنه منصوب على المصدر، وإليه ذهب مكي ، وابن عطية ، وأبو البقاء ، وغيرهم، والتقدير: متعكم به متاعا تنتفعون وتأتدمون به، وقال مكي : لأن قوله: "أحل لكم" بمعنى: أمتعتكم به إمتاعا، كقوله: كتاب الله عليكم . والثاني: أنه مفعول من أجله، قال الزمخشري : "أي: أحل لكم تمتيعا لكم، وهو في المفعول له بمنزلة قوله تعالى: ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة في باب الحال؛ لأن قوله: "متاعا لكم" مفعول له مختص بالطعام، كما أن "نافلة" حال مختص بيعقوب، يعني: أحل لكم طعامه تمتيعا لتنائكم، تأكلونه طريا، ولسيارتكم يتزودونه قديدا" انتهى. فقد خصص الزمخشري كونه مفعولا له بكون الفعل وهو "أحل" مسندا لقوله: "وطعامه"، وليس علة لحل الصيد، وإنما علة لحل الطعام فقط، وإنما حمله على ذلك مذهبه - وهو مذهب أبي حنيفة - من أن صيد البحر منقسم إلى ما يؤكل وإلى ما لا يؤكل، وأن طعامه هو المأكول منه، وأنه لا يقع التمثيل إلا بالمأكول منه طريا وقديدا، وقوله: "نافلة"، يعني: أن هذه الحال [ ص: 430 ] مختصة بيعقوب؛ لأنه ولد ولد، بخلاف إسحاق فإنه ولده لصلبه، والنافلة إنما تطلق على ولد الولد دون الولد، فكذا "متاعا"، إلا أن هذا يؤدي إلى أن الفعل الواحد يسند لفاعلين متعاطفين يكون في إسناده إلى أحدهما معللا وإلى الآخر ليس كذلك، فإذا قلت: "قام زيد وعمرو إجلالا لك"، فيجوز أن يكون "قيام زيد" هو المختص بالإجلال أو بالعكس، وهذا فيه إلباس، وأما ما أورده من الحال في الآية الكريمة، فثم قرينة أوجبت صرف الحال إلى أحدهما، بخلاف ما نحن فيه من الآية الكريمة، وأما غير مذهبه، فإنه يكون مفعولا له غير مختص بأحد المتعاطفين، وهو ظاهر جلي. و "لكم" إن قلنا: "متاعا" مصدر، فيجوز أن يكون صفة له، ويكون مصدرا مبينا لكونه وصف، وإن قلنا: إنه مفعول له، فيتعلق بفعل محذوف؛ أي: أعني: لكم، نحو: "قمت إجلالا لك"، ويجوز أن تكون اللام مقوية لتعدية المصدر، إذ التقدير: لأن أمتعكم، ولإن أجلك، وهكذا ما جاء من نظائره.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ما دمتم": "ما" مصدرية، و "دمتم" صلتها، وهي مصدرية ظرفية؛ أي: حرم عليكم صيد البر مدة دوامكم محرمين. والجمهور على ضم دال "دمتم" من لغة من قال: دام يدوم. وقرأ يحيى: "دمتم" بكسرها من لغة من يقول: دام يدام، كخاف يخاف، وهما كاللغتين في مات يموت ويمات، وقد تقدم. والجمهور على "وحرم" مبنيا للمفعول، "صيد" رفعا على قيامه مقام الفاعل، وقرئ: "وحرم" مبنيا للفاعل، "صيد" نصبا على المفعول به. والجمهور أيضا على "حرما" بضم الحاء والراء جمع "حرام" بمعنى محرم، كـ "قذال" و "قذل". وقرأ ابن عباس: "حرما" بفتحهما؛ أي: ذوي حرم؛ أي: [ ص: 431 ] إحرام، وقيل: جعلهم بمنزلة المكان الممنوع منه، والأحسن أن يكون من باب "رجل عدل" جعلهم نفس المصدر، فإن "حرما" بمعنى إحرام، وتقدم أن المصدر يقع للواحد فما فوق بلفظ واحد. والبر معروف، قال الليث: "ويستعمل نكرة، يقال: جلست برا وخرجت برا". قال الأزهري: "وهو من كلام المولدين"، وفيه نظر لقول سلمان الفارسي: "إن لكل امرئ جوانيا وبرانيا"؛ أي: باطن وظاهر، وهو من تغيير النسب، وقد تقدم استيفاء هذه المادة في البقرة. وقدم "إليه" على "تحشرون" للاختصاص؛ أي: تحشرون إليه لا إلى غيره، أو لتناسب رؤوس الآي.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية