الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 148 ) قوله تعالى: لا يحب الله الجهر بالسوء "بالسوء" متعلق بالجهر، وهو مصدر معرف بـ "أل"، استدل به الفارسي على جواز [ ص: 134 ] إعمال المصدر المعرف بـ "أل". قيل: ولا دليل فيه؛ لأن الظرف والجار يعمل فيهما روائح الأفعال. وفاعل هذا المصدر محذوف؛ أي: الجهر أحد، وقد تقدم أن الفاعل يطرد حذفه في صور منها المصدر، ويجوز أن يكون الجهر مأخوذا من فعل مبني للمفعول على خلاف في ذلك، فيكون الجار بعده في محل رفع لقيامه مقام الفاعل؛ لأنك لو قلت: لا يحب الله أن يجهر بالسوء، كان "بالسوء" قائما مقام الفاعل، ولا تعلق له حينئذ به. و "من القول" حال من “السوء".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "إلا من ظلم" في هذا الاستثناء قولان، أحدهما: أنه متصل. والثاني: أنه منقطع، وإذا قيل بأنه متصل، فقيل: هو مستثنى من "أحد" المقدر الذي هو فاعل للمصدر، فيجوز أن تكون "من" في محل نصب على أصل الاستثناء، أو رفع على البدل من "أحد" وهو المختار، ولو صرح به لقيل: لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء إلا المظلوم أو المظلوم، رفعا ونصبا، ذكر ذلك مكي، وأبو البقاء، وغيرهما. قال الشيخ: وهذا مذهب الفراء ، أجاز في "ما قام إلا زيد" أن يكون "زيد" بدلا من "أحد"، وأما على مذهب الجمهور فإنه يكون من المستثنى الذي فرغ له العامل، فيكون مرفوعا على الفاعلية بالمصدر، وحسن ذلك كون الجهر في حيز النفي، كأنه قيل: لا يجهر بالسوء من القول إلا المظلوم. انتهى. والفرق ظاهر بين مذهب الفراء وبين هذه الآية، فإن النحويين إنما لم يروا بمذهب الفراء ، قالوا: لأن المحذوف صار نسيا منسيا، وأما فاعل المصدر هنا فإنه كالمنطوق به ليس منسيا، فلا يلزم من تجويزهم الاستثناء من هذا الفاعل المقدر أن يكونوا تابعين لمذهب الفراء لما ظهر من الفرق. وقيل: هو مستثنى مفرغ، فتكون [ ص: 135 ] "من" في محل رفع بالفاعلية كما تقدم تقريره في كلام الشيخ، والتفريغ لا يكون إلا في نفي أو شبهه، ولكن لما وقع الجهر متعلقا للحب الواقع في حيز النفي، ساغ ذلك. وقيل: هو مستثنى من الجهر على حذف مضاف، تقديره: إلا جهر من ظلم، فهذه ثلاثة أوجه على تقدير كونه متصلا، تحصل منها في محل "من" أربعة أوجه: الرفع من وجهين، وهما البدل من "أحد" المقدر، أو الفاعلية على كونه مفرغا، والنصب على أصل الاستثناء من "أحد" المقدر، أو من الجهر على حذف مضاف.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه استثناء منقطع، تقديره: لكن من ظلم له أن ينتصف من ظالمه بما يوازي ظلامته، فتكون "من" في محل نصب فقط على الاستثناء المنقطع.

                                                                                                                                                                                                                                      والجمهور على "إلا من ظلم" مبنيا للمفعول، وقرأ جماعة كثيرة، منهم ابن عباس، وابن عمر، وابن جبير، والحسن: "ظلم" مبنيا للفاعل، وهو استثناء منقطع، فهو في محل نصب على أصل الاستثناء المنقطع، واختلفت عبارات العلماء في تقدير هذا الاستثناء، وحاصل ذلك يرجع إلى أحد تقديرات ثلاثة: إما أن يكون راجعا إلى الجملة الأولى، كأنه قيل: لا يحب الله الجهر بالسوء، لكن الظالم يحبه فهو يفعله، وإما أن يكون راجعا إلى فاعل الجهر؛ أي: لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء، لكن الظالم يجهر به، وإما أن يكون راجعا إلى متعلق الجهر، وهو من يجاهر ويواجه بالسوء؛ أي: لا يحب الله أن يجهر بالسوء لأحد، لكن الظالم يجهر له به؛ أي: يذكر ما فيه من المساوئ في وجهه، لعله أن يرتدع. وكون هذا المستثنى في هذه القراءة منصوب المحل على الانقطاع هو الصحيح، وأجاز ابن عطية والزمخشري أن [ ص: 136 ] يكون في محل رفع على البدلية، ولكن اختلف مدركهما، فقال ابن عطية: وإعراب "من" يحتمل في بعض هذه التأويلات النصب، ويحتمل الرفع على البدل من "أحد" المقدر، يعني: أحدا المقدر في المصدر، كما تقدم تحقيقه. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون "من" مرفوعا، كأنه قيل: لا يحب الله الجهر بالسوء إلا الظالم، على لغة من يقول: ما جاءني زيد إلا عمرو، بمعنى: ما جاءني إلا عمرو، ومنه: لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله . ورد الشيخ عليهما، فقال: وما ذكره - يعني: ابن عطية - من جواز الرفع على البدل لا يصح، وذلك أن المنقطع قسمان: قسم يتوجه إليه العامل، نحو: ما فيها أحد إلا حمار؛ فهذا فيه لغتان: لغة الحجاز وجوب النصب، ولغة تميم جواز البدل، وإن لم يتوجه عليه العامل، وجب نصبه عند الجميع، نحو: المال ما زاد إلا النقص؛ أي: لكن حصل له النقص، ولا يجوز فيه البدل؛ لأنك لو وجهت إليه العامل لم يصح. قال: والآية من هذا القسم؛ لأنك لو قلت: لا يحب الله أن يجهر بالسوء إلا الظالم، فتسلط "يجهر" على "الظالم"، وقال: وهذا الذي جوزه - يعني: الزمخشري - لا يجوز؛ لأنه لا يمكن أن يكون الفاعل لغوا، ولا يمكن أن يكون "الظالم" بدلا من "الله"، ولا "عمرو" بدلا من "زيد"؛ لأن البدل في هذا الباب يرجع إلى بدل بعض من كل، حقيقة نحو: ما قام القوم إلا زيد، أو مجازا نحو: ما فيها أحد إلا حمار، والآية لا يجوز فيها البدل حقيقة ولا مجازا، وكذا المثال المذكور؛ لأن الله تعالى علم وكذا زيد، فلا عموم فيهما ليتوهم دخول شيء فيهما فيستثنى، وأما ما يجوز فيه البدل من الاستثناء المنقطع، فلأن ما قبله عام يتوهم دخوله فيه، فيبدل ما قبله مجازا، وأما قوله على [ ص: 137 ] لغة من يقول: ما جاءني زيد إلا عمرو، فلا نعلم هذه لغة إلا في كتاب سيبويه بعد أن أنشد أبياتا في الاستثناء المنقطع آخرها:


                                                                                                                                                                                                                                      1672 - عشية ما تغني الرماح مكانها ولا النبل إلا المشرفي المصمم



                                                                                                                                                                                                                                      ما نصه: وهذا يقوي "ما أتاني زيد إلا عمرو، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه"؛ لأنها معارف ليست الأسماء الآخرة بها ولا بعضها، ولم يصرح ولا لوح أن "ما أتاني زيد إلا عمرو" من كلام العرب. قال من شرح كلام سيبويه: فهذا يقوي "ما أتاني زيد إلا عمرو"؛ أي: ينبغي أن يثبت هذا من كلام العرب؛ لأن النبل معرفة ليس بالمشرفي، كما أن "زيدا" ليس بعمرو، كما أن إخوة زيد ليسوا إخوتك. قال الشيخ: وليس ما أتاني زيد إلا عمرو، نظير البيت؛ لأنه قد يتخيل عموم في البيت؛ إذ المعنى: لا يغني السلاح، وأما "زيد" فلا يتوهم فيه عموم على أنه لو ورد من كلامهم: "ما أتاني زيد إلا عمرو"، لأمكن أن يصح على "ما أتاني زيد ولا غيره إلا عمرو"، فحذف المعطوف لدلالة الاستثناء عليه، أما أن يكون على إلغاء الفاعل، أو على كون "عمرو" بدلا من "زيد"، فإنه لا يجوز، وأما الآية فليست مما ذكر؛ لأنه يحتمل أن تكون "من" مفعولا بها، و "الغيب" بدل منها بدل اشتمال، والتقدير: يعلم غيب من في السماوات والأرض إلا الله؛ أي: سرهم وعلانيتهم لا يعلمها إلا الله، ولو سلم أن "من" مرفوعة المحل، فيتخيل فيها عموم، فيبدل منها "الله" مجازا، كأنه قيل: لا يعلم الموجودون الغيب إلا الله، أو يكون على سبيل المجاز في الظرفية بالنسبة إلى الله تعالى، إذ جاء ذلك عنه في القرآن والسنة، [ ص: 138 ] نحو: وهو الله في السماوات وفي الأرض ، وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ، قال: أين الله ؟ قالت: في السماء. ومن كلام العرب: " لا وذو في السماء بيته" يعنون: الله، وإذا احتملت الآية هذه الوجوه لم يتعين حملها على ما ذكره. انتهى ما رد به عليهما.

                                                                                                                                                                                                                                      أما رده على ابن عطية فواضح، وأما رده على الزمخشري ففي بعضه نظر، أما قوله: لا نعلمها لغة إلى في كتاب سيبويه؛ فكفى به دليلا على صحة استعمال مثله، ولذلك شرح الشراح لكتاب سيبويه هذا الكلام بأنه قياس كلام العرب لما أنشد من الأبيات. وأما تأويله "ما أتاني زيد إلا عمرو" بـ "ما أتاني زيد ولا غيره"، فلا يتعين ما قاله، وتصحيح الاستثناء فيه أن قول القائل: "ما أتاني زيد"، قد يوهم أن عمرا أيضا لم يجئه، فنفى هذا الوهم، وهذا القدر كاف في الاستثناء المنقطع، ولو كان تأويل "ما أتاني زيد إلا عمرو" على ما قال، لم يكن استثناء منقطعا بل متصلا، وقد اتفق النحويون على أن ذلك من المنقطع، وأما تأويل الآية بما ذكره، فالتجوز في ذلك أمر خطر، فلا ينبغي أن يقدم على مثله.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية