الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 103 ) قوله تعالى: من بحيرة "من" زائدة لوجود الشرطين المعروفين، و "جعل" يجوز أن يكون بمعنى "سمى" ويتعدى لمفعولين، أحدهما محذوف، والتقدير: ما جعل - أي: ما سمى - الله حيوانا بحيرة، [ ص: 445 ] قاله أبو البقاء . وقال ابن عطية ، والزمخشري ، وأبو البقاء : "إنها تكون بمعنى: شرع ووضع؛ أي: ما شرع الله ولا أمره". وقال الواحدي - بعد كلام طويل -: "فمعنى ما جعل الله من بحيرة: ما أوجبها ولا أمر بها". وقال ابن عطية : "وجعل في هذه الآية لا تكون بمعنى "خلق"؛ لأن الله خلق هذه الأشياء كلها، ولا بمعنى "صير"؛ لأن التصيير لا بد له من مفعول ثان، فمعناه: ما سن الله ولا شرع. ومنع الشيخ هذه النقولات كلها بأن "جعل" لم يعد اللغويون من معانيها شرع، وخرج الآية على التصيير، ويكون المفعول الثاني محذوفا؛ أي: ما صير الله بحيرة مشروعة.

                                                                                                                                                                                                                                      والبحيرة: فعيلة بمعنى مفعولة، فدخول تاء التأنيث عليها لا ينقاس، ولكن لما جرت مجرى الأسماء الجوامد أنثت، وهذا قد أوضحته في قوله: "والنطيحة". واشتقاقها من البحر، والبحر: السعة، ومنه: "بحر الماء" لسعته. واختلف أهل اللغة في البحيرة عند العرب ما هي ؟ اختلافا كثيرا. فقال أبو عبيد: "هي الناقة التي تنتج خمسة أبطن في آخرها ذكر، فتشق أذنها وتترك، فلا تركب، ولا تحلب، ولا تطرد عن مرعى ولا ماء، وإذا لقيها المعيي لم يركبها". وروي ذلك عن ابن عباس، إلا أنه لم يذكر في آخرها ذكرا. وقال بعضهم: "إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن نظر في الخامس: فإن كان ذكرا ذبحوه وأكلوه، وإن كان أنثى شقوا أذنها وتركوها ترعى وترد، ولا تركب [ ص: 446 ] ولا تحلب، فهذه هي البحيرة"، وروي هذا عن قتادة. وقال بعضهم: "البحيرة: الأنثى التي تكون خامس بطن كما تقدم بيانه، إلا أنها لا يحل للنساء لحمها ولا لبنها، فإن ماتت حلت لهن". وقال بعضهم: "البحيرة: بنت السائبة"، وسيأتي تفسير السائبة، فإذا ولدت السائبة أنثى شقوا أذنها، وتركوها مع أمها ترعى وترد ولا تركب حتى للمعيي، وهذا قول مجاهد بن جبر. وقال بعضهم: "هي التي منع درها - أي: لبنها - لأجل الطواغيت، فلا يحلبها أحد"، وقال بهذا سعيد بن المسيب. وقيل: هي التي تترك في المرعى بلا راع، قاله ابن سيده. وقيل: إذا ولدت خمس إناث شقوا أذنها وتركوها. وقال بعضهم - ويعزى لمسروق -: "إنها إذا ولدت خمسا أو سبعا شقوا أذنها". وقيل: هي الناقة تلد عشرة أبطن فتشق أذنها طولا بنصفين، وتترك فلا تركب ولا تحلب، ولا تطرد عن مرعى ولا ماء، وإذا ماتت حل لحمها للرجال دون النساء"، نقله ابن عطية ، وكذا قاله أبو القاسم الراغب. وقيل: البحيرة: السقب إذا ولد نحروا أذنه، وقالوا: اللهم إن عاش فقني وإن مات فذكي، فإذا مات أكلوه. ووجه الجمع بين هذه الأقوال الكثيرة أن العرب كانت تختلف أفعالها في البحيرة.

                                                                                                                                                                                                                                      والسائبة: قيل: كان الرجل إذا قدم من سفر أو شكر نعمة سيب بعيرا فلم يركب، ويفعل به ما تقدم في البحيرة، وهذا قول أبي عبيد. وقيل: هي [ ص: 447 ] الناقة تنتج عشر إناث، فلا تركب ولا يشرب لبنها إلا ضيف أو ولد، قاله الفراء . وقيل: ما ترك لآلهتهم، فكان الرجل يجيء بماشيته إلى السدنة، فيتركه عندهم ويسيل لبنه. وقيل: هي الناقة تترك ليحج عليها حجة، ونقل ذلك عن الشافعي. وقيل: هو العبد يعتق على ألا يكون عليه ولاء ولا عقل ولا ميراث.

                                                                                                                                                                                                                                      والسائبة هنا: فيها قولان، أحدهما: أنها اسم فاعل على بابه من ساب يسيب؛ أي: يسرح، كسيب الماء، وهو مطاوع سبته، يقال: سيبته فساب وانساب. والثاني: أنه بمعنى مفعول، نحو: "عيشة راضية"، ومجيء فاعل بمعنى مفعول قليل جدا نحو: "ماء دافق"، والذي ينبغي أن يقال: إنه فاعل بمعنى ذي كذا؛ أي: بمعنى النسب، نحو قولهم: لابن؛ أي: صاحب لبن، ومنه في أحد القولين: "عيشة راضية وماء دافق"؛ أي: ذات رضى وذا دفق، وكذا هذا؛ أي: ذات سيب.

                                                                                                                                                                                                                                      والوصيلة هنا فعيلة بمعنى فاعلة على ما سيأتي تفسيره، فدخول التاء قياس. واختلف أهل اللغة فيها هل هي من جنس الغنم أو من جنس الإبل ؟ ثم اختلفوا بعد ذلك أيضا، فقال الفراء : "هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين، فإذا ولدت في آخرها عناقا وجديا قيل: وصلت أخاها فجرت مجرى السائبة". وقال الزجاج: "هي الشاة إذا ولدت ذكرا كان لآلهتهم، وإذا ولدت أنثى كانت لهم". وقال ابن عباس: - رضي الله عنه - هي الشاة تنتج سبعة أبطن، فإذا كان السابع أنثى لم تنتفع النساء منها بشيء، إلا أن تموت فيأكلها الرجال والنساء، وإن كانت ذكرا ذبحوه وأكلوه جميعا، وإن كان [ ص: 448 ] ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها فيتركونها معه لا تذبح، ولا ينتفع بها إلا الرجال دون النساء، فإن ماتت اشتركن مع الرجال فيها". وقال ابن قتيبة: "إن كان السابع ذكرا ذبح وأكله الرجال دون النساء، وقالوا: "خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا"، وإن كان أنثى تركت في الغنم، وإن كان ذكرا وأنثى، فكقول ابن عباس: وقيل: هي الشاة تنتج عشر إناث متواليات في خمسة أبطن ، ثم ما ولدت بعد ذلك فللذكور دون الإناث، وبهذا قال أبو إسحاق وأبو عبيدة، إلا أن أبا عبيدة قال: "وإذا ولدت ذكرا وأنثى معا قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوه لمكانها". وقيل: هي الشاة تنتج خمسة أبطن أو ثلاثة، فإن كان جديا ذبحوه، وإن كان أنثى أبقوها، وإن كان ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، هذا كله عند من يخصها بجنس الغنم. وأما من قال إنها من الإبل فقال: "هي الناقة تبتكر فتلد أنثى، ثم تثني بولادة أنثى أخرى ليس بينهما ذكر، فيتركونها لآلهتهم، ويقولون: قد وصلت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر".

                                                                                                                                                                                                                                      والحامي: اسم فاعل من حمى يحمي؛ أي: منع، واختلف فيه تفسير أهل اللغة، فعن الفراء : "هو الفحل يولد لولد ولده"، فيقولون: قد حمى ظهره، فلا يركب ولا يستعمل، ولا يطرد عن ماء ولا شجر". وقال بعضهم: "هو الفحل ينتج من بين أولاده ذكورها وإناثها عشر إناث"، روى ذلك ابن عطية . وقال بعضهم: "هو الفحل يولد من صلبه عشرة أبطن، فيقولون قد حمى ظهره، فيتركونه كالسائبة فيما تقدم، وهذا قول ابن عباس، وابن مسعود، [ ص: 449 ] وإليه مال أبو عبيدة، والزجاج". وروي عن الشافعي أنه الفحل يضرب في مال صاحبه عشر سنين. وقال ابن زيد: "هو الفحل ينتج له سبع إناث متواليات فيحمي ظهره، فيفعل به ما تقدم. وقد عرفت منشأ خلاف أهل اللغة في هذه الأشياء أنه باعتبار اختلاف مذاهب العرب وآرائهم الفاسدة فيها. وقد أنشدوا في البحيرة قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1815 - محرمة لا يطعم الناس لحمها ولا نحن في شيء كذاك البحائر



                                                                                                                                                                                                                                      وأنشد في السائبة قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1816 - وسائبة لله مالي تشكرا     إن الله عافى عامرا أو مجاشعا



                                                                                                                                                                                                                                      وأنشدوا في الوصيلة لتأبط شرا:


                                                                                                                                                                                                                                      1817 - أجدك أما كنت في الناس ناعقا     تراعي بأعلى ذي المجاز الوصايلا



                                                                                                                                                                                                                                      وأنشدوا في الحامي قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1818 - حماها أبو قابوس في عز ملكه     كما قد حمى أولاد أولاده الفحل [ ص: 450 ]



                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية