الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 36 ) قوله تعالى: لو أن لهم قد تقدم الكلام على "أن" الواقعة بعد "لو"، وأن فيها مذهبين، و "لهم" خبر لـ "أن"، و "ما في الأرض" اسمها، و "جميعا" توكيد له أو حال منه. ومثله في نصبه وجهان، أحدهما: أنه عطف على اسم "أن" وهو "ما" الموصولة. والثاني: أنه منصوب على المعية، وهو رأي الزمخشري، وسيأتي ما يرد على ذلك والجواب عنه. [ ص: 253 ] و "معه" ظرف واقع موقع الحال، واللام في "ليفتدوا" متعلقة بالاستقرار الذي تعلق به الخبر وهو "لهم"، و "به، ومن عذاب" متعلقان بالافتداء، والضمير في "به" عائد على "ما" الموصولة، وجيء بالضمير مفردا وإن تقدمه شيئان، وهما: "ما في الأرض، ومثله" إما لتلازمهما، فهما في حكم شيء واحد، وإما لأنه حذف من الثاني لدلالة ما في الأول عليه، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1722 - ... ... ... ... فإني وقيار بها لغريب



                                                                                                                                                                                                                                      أي: لو أن لهم ما في الأرض ليفتدوا به ومثله معه ليفتدوا به، وإما لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1723 - كأنه في الجلد ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم في البقرة. و "عذاب" بمعنى: تعذيب، وبإضافته إلى "يوم" خرج "يوم" عن الظرفية. و "ما" نافية، وهي جواب "لو"، وجاء على الأكثر من كون الجواب المنفي بغير لام، والجملة الامتناعية في محل رفع خبرا لـ "إن".

                                                                                                                                                                                                                                      وجعل الزمخشري توحيد الضمير في "به" لمدرك آخر، وهو أن الواو في "ومثله" واو "مع"، قال بعد أن ذكر الوجهين المتقدمين: ويجوز أن تكون الواو في "ومثله" بمعنى "مع"، فيتوحد المرجوع إليه. فإن قلت: فبم ينصب المفعول معه ؟ قلت: بما تستدعيه "لو" من الفعل؛ لأن التقدير: لو ثبت أن لهم ما في الأرض، يعني: أن حكم ما قبل المفعول معه في الخبر والحال [ ص: 254 ] وعود الضمير، حكم "لو" لم يكن بعده مفعول معه، تقول: كنت وزيدا كالأخ، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      1724 - وكان وإياها كحران لم يفق     عن الماء إذ لاقاه حتى تقددا



                                                                                                                                                                                                                                      فقال: "كحران" بالإفراد، ولم يقل: "كحرانين"، وتقول: جاء زيد وهندا ضاحكا في داره، وقد أجاز الأخفش أن يعطى حكم المتعاطفين، يعني: فيطابق الخبر، والحال والضمير له ولما بعده، فتقول: كنت وزيدا كالأخوين. قال بعضهم: والصحيح جوازه على قلة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد رد الشيخ على أبي القاسم وطول معه، فلا بد من نقل نصه، قال: وقول الزمخشري: ويجوز أن تكون الواو بمعنى "مع"؛ لأنه يصير التقدير: مع مثله معه؛ أي: مع مثل ما في الأرض مع ما في الأرض، إن جعلت الضمير في "معه" عائدا على "ما" يكون "معه" حالا من "مثله"، وإذا كان ما في الأرض مع مثله كان مثله معه ضرورة، فلا فائدة في ذكر "معه" لملازمة معية كل منهما للآخر، وإن جعلت الضمير عائدا على "مثله"؛ أي: مع مثله مع ذلك المثل، فيكون المعنى مع مثلين، فالتعبير عن هذا المعنى بتلك العبارة عي؛ إذ الكلام المنتظم أن يكون التركيب، إذا أريد ذلك المعنى مع مثليه، وقول الزمخشري: "فإن قلت" إلى آخر الجواب، هذا السؤال يرد؛ لأنا قد بينا فساد أن تكون الواو واو "مع"، وعلى تقدير وروده، فهذا بناء منه على أن "أن" إذا جاءت بعد "لو" كانت في محل رفع بالفاعلية، فيكون التقدير على [ ص: 255 ] هذا: لو ثبت كينونة ما في الأرض مع مثله لهم ليفتدوا به، فيكون الضمير عائدا على "ما" فقط. وهذا الذي ذكره هو تفريع منه على مذهب المبرد في أن "أن" بعد "لو" في محل رفع على الفاعلية، وهو مذهب مرجوح، ومذهب سيبويه أن "أن" بعد "لو" في محل مبتدأ، والذي يظهر من كلام الزمخشري هنا وفي تصانيفه أنه ما وقف على مذهب سيبويه في هذه المسألة، وعلى المفرع على مذهب المبرد لا يجوز أن تكون الواو بمعنى "مع"، والعامل فيها "ثبت" المقدر، لما تقدم من وجود لفظة معه، وعلى تقدير سقوطها لا يصح؛ لأن "ثبت" ليس رافعا لـ "ما" العائد عليها الضمير، وإنما هو رافع مصدرا منسبكا من "أن" وما بعدها وهو كون، إذ التقدير: لو ثبت كون ما في الأرض جميعا لهم ومثله معه ليفتدوا به، والضمير عائد على ما دون الكون، فالرافع للفاعل غير الناصب للمفعول معه، إذ لو كان إياه للزم من ذلك وجود الثبوت مصاحبا للمثل، والمعنى على كينونة ما في الأرض مصاحبا للمثل، لا على ثبوت ذلك مصاحبا للمثل، وهذا فيه غموض، وبيانه: إذا قلت: يعجبني قيام زيد وعمرا، جعلت "عمرا" مفعولا معه، والعامل فيه "يعجبني"، لزم من ذلك أن "عمرا" لم يقم، وأعجبك القيام وعمرو، وإن جعلت العامل فيه القيام كان عمرو قائما، وكان الإعجاب قد تعلق بالقيام مصاحبا لقيام عمرو، فإن قلت: هل كان "ومثله معه" مفعولا معه، والعامل فيه هو العامل في "لهم"؛ إذ المعنى عليه ؟ قلت: لا يصح ذلك لما ذكرناه من وجود "معه" في الجملة، وعلى تقدير سقوطها لا يصح؛ لأنهم نصوا على أن قولك: "هذا لك وأباك" ممنوع في الاختيار، قال سيبويه: "وأما هذا لك وأباك" فقبيح؛ لأنه لم يذكر فعلا ولا حرفا فيه معنى فعل، حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل، فأصبح سيبويه [ ص: 256 ] بأن اسم الإشارة وحرف الجر المتضمن لمعنى الاستقرار لا يعملان في المفعول معه، وقد أجاز بعض النحويين في حرف الجر والظرف أن يعملا في المفعول معه، نحو: "هذا لك وأباك"، فقوله: "وأباك" يكون مفعولا معه، والعامل الاستقرار في "لك". انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      ومع هذا الاعتراض الذي ذكره، فقد يظهر عنه جواب، وهو أنا نقول: نختار أن يكون الضمير في قوله: "معه" عائدا على "مثله"، ويصير المعنى: مع مثلين، وهو أبلغ من أن يكون مع مثل واحد، وقوله: "تركيب عي" فهم قاصر. ولا بد من جملة محذوفة قبل قوله: "ما تقبل منهم"، تقديره: وبذلوه أو وافتدوا به؛ ليصح الترتيب المذكور، إذ لا يترتب على استقرار ما في الأرض جميعا ومثله معه لهم عدم التقبل، إنما يترتب عدم التقبل على البذل والافتداء. والعامة على "تقبل" مبنيا للمفعول، حذف فاعله لعظمته وللعلم به. وقرأ يزيد بن قطيب: "ما تقبل" مبنيا للفاعل، وهو ضمير الباري تبارك وتعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ولهم عذاب" مبتدأ وخبره مقدم عليه. و "أليم" صفته بمعنى: مؤلم. وهذه الجملة أجازوا فيها ثلاثة أوجه، أحدها: أن تكون حالا، وفيه ضعف من حيث المعنى. الثاني: أن تكون في محل رفع عطفا على خبر "أن"، أخبر عن الذين كفروا بخبرين: لو استقر لهم جميع ما في الأرض مع مثله فبذلوه لم يتقبل منهم، وأن لهم عذابا أليما. الثالث: أن تكون معطوفة على الجملة من قوله: "إن الذين كفروا"، وعلى هذا فلا محل لها لعطفها على ما لا محل له.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية