الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 71 ) قوله تعالى: أندعو استفهام توبيخ وإنكار، والجملة في محل نصب بالقول، و "ما" مفعولة بـ "ندعو"، وهي موصولة أو نكرة موصوفة، و "من دون الله" متعلق بـ "ندعو"، قال أبو البقاء : "ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في "ينفعنا" ولا معمولا لـ "ينفعنا" لتقدمه على "ما"، والصلة والصفة لا تعمل فيما قبل الموصول والموصوف". قوله: "من الضمير في ينفعنا" يعني به: المرفوع العائد على "ما"، وقوله: "لا تعمل فيما قبل الموصول والموصوف" يعني: أن "ما" لا تخرج عن هذين القسمين، ولكن يجوز أن يكون "من دون" حالا من "ما" نفسها على قوله؛ إذ لم يجعل المانع [ ص: 684 ] من جعله حالا من ضميره الذي في "ينفعنا" إلا صناعيا لا معنويا، ولا فرق بين الظاهر وضميره بمعنى أنه إذا جاز أن يكون حالا من ظاهر، جاز أن يكون حالا من ضميره، إلا أن يمنع مانع.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ونرد" فيه وجهان، أظهرهما: أنه نسق على "ندعو"، فهو داخل في حيز الاستفهام المتسلط عليه القول. والثاني: أنه حال على إضمار مبتدأ؛ أي: ونحن نرد. قال الشيخ بعد نقله عن أبي البقاء : "وهو ضعيف لإضمار المبتدإ، ولأنها تكون حالا مؤكدة"، وفي كونها مؤكدة نظر؛ لأن المؤكدة ما فهم معناها من الأول، وكأنه يقول: من لازم الدعاء "من دون الله" الارتداد على العقب.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "على أعقابنا" فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بـ "نرد". والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من مرفوع "نرد"؛ أي: نرد راجعين على أعقابنا، أو منقلبين، أو متأخرين، كذا قدروه، وهو تفسير معنى؛ إذ المقدر في مثله كون مطلق، وهذا يحتمل أن يقال فيه إنه حال مؤكدة، و "بعد إذ" متعلق بـ "نرد".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "كالذي استهوته" في هذه الكاف وجهان، أحدهما: أنه نعت مصدر محذوف؛ أي: نرد ردا مثل رد الذين. والثاني: أنها في محل نصب على الحال من مرفوع "نرد"؛ أي: نرد مشبهين الذي استهوته الشياطين، فمن جوز تعدد الحال جعلها حالا ثانية إن جعل "على أعقابنا" حالا، ومن لم يجوز ذلك جعل هذه الحال بدلا من الحال الأولى، أو لم يجعل "على أعقابنا" حالا بل متعلقا بـ "نرد"

                                                                                                                                                                                                                                      والجمهور على "استهوته" بتاء التأنيث. وحمزة "استهواه" وهو على [ ص: 685 ] قاعدته من الإمالة، الوجهان معروفان مما تقدم في: "توفته رسلنا". وقرأ أبو عبد الرحمن والأعمش: "استهوته الشيطان" بتأنيث الفعل والشيطان مفرد. قال الكسائي : "وهي كذلك في مصحف ابن مسعود". وتوجيه هذه القراءة أنها نؤول المذكر بمؤنث، كقولهم: "أتته كتابي فاحتقرها"؛ أي: صحيفتي، وتقدم له نظائر. وقرأ الحسن البصري: "الشياطون" وجعلوها لحنا ولا تصل إلى اللحن، إلا أنها لغية رديئة، سمع: حول بستان فلان بساتون، وله سلاطون، ويحكى أنه لما حكيت قراءة الحسن لحنه بعضهم، فقال الفراء : "أي والله يلحنون الشيخ، ويستشهدون بقول رؤبة"، ولعمري لقد صدق الفراء في إنكار ذلك. والمراد بالذي: الجنس، ويحتمل أن يراد به الواحد الفذ.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "في الأرض" فيه أربعة أوجه، أحدها: أنه متعلق بقوله: "استهوته". الثاني: أنه حال من مفعول "استهوته". الثالث: أنه حال من "حيران". الرابع: أنه حال من الضمير المستكن في "حيران"، و "حيران" حال: إما من هاء "استهوته" على أنها بدل من الأولى، أو عند من يجيز تعددها، وإما من “الذي"، وإما من الضمير المستكن في الظرف، وحيران مؤنثه حيرى، ولذلك لم ينصرف، والفعل حار يحار حيرة وحيرانا وحيرورة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "له أصحاب" جملة في محل نصب صفة لحيران، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في حيران، وأن تكون مستأنفة. و "إلى الهدى" متعلق بـ "يدعونه"، وفي مصحف ابن مسعود وقراءته: "أتينا" بصيغة الماضي، و "إلى الهدى" على هذه القراءة متعلق به، وعلى قراءة الجمهور: الجملة [ ص: 686 ] الأمرية في محل نصب بقول مضمر؛ أي: يقولون ائتنا، والقول المضمر في محل صفة لأصحاب، وكذلك "يدعونه".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "لنسلم" في هذه اللام أقوال، أحدها: - وهو مذهب سيبويه - أن هذه اللام بعد الإرادة والأمر، وشبههما متعلقة بمحذوف على أنه خبر للمبتدإ، وذلك المبتدأ هو مصدر من ذلك الفعل المتقدم، فإذا قلت: أردت لتقوم، وأمرت زيدا ليذهب، كان التقدير: الإرادة للقيام والأمر للذهاب، كذا نقل الشيخ ذلك عن سيبويه وأصحابه، وفيه ضعف قد قدمته في سورة النساء عند قوله: يريد الله ليبين لكم . الثاني: أن مفعول الأمر والإرادة محذوف، وتقديره: وأمرنا بالإخلاص لنسلم

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: قال الزمخشري : "هي تعليل للأمر بمعنى: أمرنا، وقيل: لنا أسلموا لأجل أن نسلم". الرابع: أن اللام زائدة؛ أي: أمرنا أن نسلم. الخامس: أنها بمعنى الباء؛ أي: بأن نسلم. السادس: أن اللام وما بعدها مفعول الأمر واقعة موقع "أن"؛ أي: أنهما يتعاقبان، فتقول: أمرتك لتقوم وأن تقوم، وهذا مذهب الكوفيين . وقال ابن عطية : "ومذهب سيبويه أن "لنسلم" في موضع المفعول، وأن قولك: "أمرت لأقوم وأن أقوم" يجريان سواء، وقال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      1954 - أريد لأنسى حبها فكأنما تمثل لي ليلى بكل طريق [ ص: 687 ]



                                                                                                                                                                                                                                      وهذا ليس مذهب سيبويه ، إنما مذهبه ما تقدم، وقد تقدم تحقيق هذه المسألة في السورة المشار إليها قبل.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية