الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 84 ) قوله تعالى: وما لنا لا نؤمن : "ما" استفهامية في محل رفع بالابتداء، و "لنا" جار ومجرور خبره، تقديره: أي شيء استقر لنا، و "لا نؤمن" جملة حالية. وقد تقدم نظير هذه الآية والكلام عليها، وأن بعضهم قال: إنها حال لازمة لا يتم المعنى إلا بها، نحو: فما لهم عن التذكرة معرضين ، وتقدم ما قلته فيه، فأغنى ذلك عن إعادته. وقال الشيخ هنا: وهي المقصود، وفي ذكرها فائدة الكلام، وذلك كما تقول: جاء زيد راكبا، لمن قال: هل جاء زيد ماشيا أو راكبا ؟

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وما جاءنا" في محل "ما" وجهان، أحدهما: أنه مجرور نسقا على الجلالة؛ أي: بالله وبما جاءنا، وعلى هذا فقوله: "من الحق" فيه احتملان، أحدهما: أنه حال من فاعل "جاءنا"؛ أي: جاء في حال كونه من جنس الحق. والاحتمال الآخر: أن تكون "من" لابتداء الغاية، والمراد بالحق: الباري تعالى، وتتعلق "من" حينئذ بـ "جاءنا"، كقولك: جاءنا فلان من عند زيد. والثاني: أن محله رفع بالابتداء، والخبر قوله: "من الحق"، والجملة في موضع الحال، كذا قاله أبو البقاء ، ويصير التقدير: وما لنا لا نؤمن بالله [ ص: 399 ] والحال أن الذي جاءنا كائن من الحق، و "الحق" يجوز أن يراد به القرآن، فإنه حق في نفسه، ويجوز أن يراد به الباري تعالى - كما تقدم - والعامل فيها الاستقرار الذي تضمنه قوله: "لنا".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ونطمع" في هذه الجملة ستة أوجه، أحدها: أنها منصوبة المحل نسقا على المحكي بالقول قبلها؛ أي: يقولون كذا، ويقولون: نطمع، وهو معنى حسن. الثاني: أنها في محل نصب على الحال من الضمير المستتر في الجار الواقع خبرا، وهو "لنا"؛ لأنه تضمن الاستقرار، فرفع الضمير وعمل في الحال، وإلى هذا ذهب أبو القاسم، فإنه قال: والواو في "ونطمع" واو الحال، فإن قلت: ما العامل في الحال الأولى والثانية ؟ قلت: العامل في الأولى ما في اللام من معنى الفعل، كأنه قيل: أي شيء حصل لنا غير مؤمنين، وفي الثانية معنى هذا الفعل، ولكن مقيدا بالحال الأولى؛ لأنك لو أزلتها وقلت: ما لنا ونطمع، لم يكن كلاما. وفي هذا الكلام نظر، وهو قوله: "لأنك لو أزلتها" إلى آخره؛ لأنا إذا أزلناها وأتينا بـ "نطمع"، لم نأت بها مقترنة بحرف العطف، بل مجردة منه لنحلها محل الأولى، ألا ترى أن النحويين إذا وضعوا المعطوف موضع المعطوف عليه، وضعوه مجردا من حرف العطف، ورأيت في بعض نسخ " الكشاف ": "ما لنا نطمع" من غير واو مقترنة بـ "نطمع"، ولكن أيضا لا يصح؛ لأنك لو قلت: "ما لنا نطمع" كان كلاما، كقوله تعالى: فما لهم عن التذكرة معرضين ، فـ "نطمع" واقع موقع مفرد هو حال، كما لو قلت: ما لك طامعا، وما لنا طامعين. ورد الشيخ عليه هذا الوجه بشيئين، أحدهما: أن العامل لا يقتضي أكثر من حال واحدة، إذا كان صاحبه مفردا دون بدل أو عطف، إلا أفعل التفضيل على الصحيح. [ ص: 400 ]

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه يلزم دخول الواو على مضارع مثبت. وذلك لا يجوز إلا بتأويل تقدير مبتدأ؛ أي: ونحن نطمع.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أنها في محل نصب على الحال من فاعل "نؤمن"، فتكون الحالان متداخلتين. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون "ونطمع" حالا من "لا نؤمن" على معنى: أنهم أنكروا على أنفسهم أنهم لا يوحدون الله، ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين. وهذا فيه ما تقدم من دخول واو الحال على المضارع المثبت، وأبو البقاء لما أجاز هذا الوجه قدر مبتدأ قبل "نطمع"، وجعل الجملة حالا من فاعل "نؤمن"، ليخلص من هذا الإشكال، فقال: ويجوز أن يكون التقدير: ونحن نطمع، فتكون الجملة حالا من فاعل "لا نؤمن". الرابع: أنها معطوفة على "لا نؤمن"، فتكون في محل نصب على الحال من ذلك الضمير المستتر في "لنا"، والعامل فيها هو العامل في الحال قبلها. فإن قلت: هذا هو الوجه الثاني المتقدم، وذكرت عن الشيخ هناك أنه منع مجيء الحالين لذي حال واحدة، وبأنه يلزم دخول الواو على المضارع، فما الفرق بين هذا وذاك ؟ فالجواب: أن الممنوع تعدد الحال دون عاطف، وهذه الواو عاطفة، وأن المضارع إنما يمتنع دخول واو الحال عليه، وهذه عاطفة لا واو حال، فحصل الفرق بينهما من جهة الواو، حيث كانت في الوجه الثاني واو الحال، وفي هذا الوجه واو عطف، وهذا وإن كان واضحا فقد يخفى على كثير من المتدربين في الإعراب، ولما حكى أبو القاسم هذا الوجه أبدى له معنيين حسنين، فقال - رحمه الله -: وأن يكون معطوفا على "لا نؤمن" على معنى: وما لنا نجمع بين التثليث وبين الطمع في صحبة الصالحين، أو على معنى: وما لنا لا نجمع بينهما بالدخول في الإسلام؛ لأن الكافر [ ص: 401 ] ما ينبغي له أن يطمع في صحبة الصالحين.

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس: أنها جملة استئنافية. قال الشيخ: الأحسن والأسهل أن يكون استئناف إخبار منهم بأنهم طامعون في إنعام الله عليهم بإدخالهم مع الصالحين، فالواو عاطفة هذه الجملة على جملة "وما لنا لا نؤمن". قلت: وهذا المعنى هو ومعنى كونها معطوفة على المحكي بالقول قبلها شيء واحد، فإن فيه الإخبار عنهم بقولهم: كيت وكيت. السادس: أن يكون "ونطمع" معطوفا على "نؤمن"؛ أي: وما لنا لا نطمع. قال الشيخ هنا: ويظهر لي وجه غير ما ذكروه، وهو أن يكون معطوفا على "نؤمن"، التقدير: وما لنا لا نؤمن ولا نطمع، فيكون في ذلك إنكار لانتفاء إيمانهم وانتفاء طمعهم مع قدرتهم على تحصيل الشيئين: الإيمان والطمع في الدخول مع الصالحين. قلت: قوله: "غير ما ذكروه" ليس كما ذكره، بل ذكر أبو البقاء ، فقال: "ونطمع" يجوز أن يكون معطوفا على "نؤمن"؛ أي: وما لنا لا نطمع، فقد صرح بعطفه على الفعل المنفي بـ "لا"، غاية ما في الباب أن الشيخ زاده بسطا.

                                                                                                                                                                                                                                      و "الطمع": قال الراغب: هو نزوع النفس إلى الشيء شهوة له، ثم قال: ولما كان أكثر الطمع من جهة الهوى، قيل: الطمع طبع والطمع يدنس الإهاب. وقال الشيخ: الطمع قريب من الرجاء، يقال منه: طمع يطمع طمعا، قال تعالى: "خوفا وطمعا"، وطماعة وطماعية كالكراهية، قال: [ ص: 402 ]


                                                                                                                                                                                                                                      1805 - ... ... ... ... طماعية أن يغفر الذنب غافره



                                                                                                                                                                                                                                      فالتشديد فيها خطأ، واسم الفاعل منه طمع، كـ "فرح، وأشر"، ولم يحك الشيخ غيره، وحكى الراغب: طمع وطامع، وينبغي أن يكون ذلك باعتبارين، كقولهم: "فرح" لمن شأنه ذلك، و "فارح" لمن تجدد له فرح.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "أن يدخلنا"؛ أي: في أن، فمحلها نصب أو جر على ما تقدم غير مرة. و "مع" على بابها من المصاحبة، وقيل: هي بمعنى "في"، ولا حاجة إليه لاستقلال المعنى مع بقاء الكلمة على موضوعها.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية