الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 58 ) قوله تعالى: أن تؤدوا منصوب المحل: إما على إسقاط حرف الجر؛ لأن حذفه يطرد مع "أن"، إذا أمن اللبس لطولهما بالصلة، وإما لأن "أمر" يتعدى إلى الثاني بنفسه نحو: "أمرتك الخير". فعلى الأول يجري الخلاف في محلها: أهي في محل نصب أم جر، وعلى الثاني: هي في محل نصب فقط. وقرئ: "الأمانة".

                                                                                                                                                                                                                                      والظاهر أن قوله: "أن تحكموا" معطوف على "أن تؤدوا"؛ أي: يأمركم بتأدية الأمانات وبالحكم بالعدل، فيكون قد فصل بين حرف العطف [ ص: 10 ] والمعطوف بالظرف، وهي مسألة خلاف: ذهب الفارسي إلى منعها إلا في الشعر، وذهب غيره إلى جوازها مطلقا. ولننقح محل الخلاف أولا، فأقول: إن حرف العطف إذا كان على حرف واحد كالواو والفاء: هل يجوز أن يفصل بينه وبين ما عطفه بالظرف وشبهه أم لا ؟ ذهب الفارسي إلى منعه مستدلا بأنه إذا كان على حرف واحد فقد ضعف، فلا يتوسط بينه وبين ما عطفه شيء إلا في ضرورة، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1595 - يوما تراها كشبه أردية الـ عضب ويوما أديمها نغلا



                                                                                                                                                                                                                                      تقديره: وترى أديمها نغلا يوما، ففصل بـ "يوما". وذهب غيره إلى جوازه مستدلا بقوله: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ، وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا ، الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ، أن تؤدوا الأمانات..... الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال صاحب هذا القول: إن المعطوف عليه إذا كان مجرورا بحرف أعيد ذلك الحرف مع المعطوف، نحو: "امرر بزيد وغدا بعمرو"، وهذه الشواهد لا دليل فيها: أما في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، وقوله: وجعلنا من بين أيديهم ؛ فلأنه عطف شيئين على شيئين: عطف "الآخرة" على "الدنيا" بإعادة الخافض، وعطف "حسنة" الثانية على "حسنة" الأولى، [ ص: 11 ] وكذلك عطف "من خلفهم" على "من بين"، و "سدا" على "سدا"، وكذلك البيت عطف فيه "أديمها" على المفعول الأول لـ "تراها"، و "نغلا" على الثاني وهو "كشبه"، و "يوما" الثاني على "يوما" الأول، فلا فصل فيه حينئذ، وحينئذ يقال: ينبغي لأبي علي أن يمنع مطلقا، ولا يستثني الضرورة، فإن ما استشهد به مؤول على ما ذكرت. فإن قيل: إنما لم يجعله أبو علي من ذلك؛ لأنه يؤدي إلى تخصيص الظرف الثاني بما وقع في الأول، وهو أنه تراها كشبه أردية العضب في اليوم الأول والثاني؛ لأن حكم المعطوف حكم المعطوف عليه، فهو نظير قولك: "ضربت زيدا يوم الجمعة ويوم السبت"، فـ "يوم السبت" مقيد بضرب زيد كما يقيد به يوم الجمعة، لكن الغرض أن اليوم الثاني في البيت مقيد بقيد آخر، وهو رؤية أديمها نغلا. فالجواب: أنه لو تركنا والظاهر من غير تقييد الظرف الثاني، بمعنى آخر كان الحكم كما ذكرت؛ لأنه الظاهر كما ذكرت في مثالك: "ضربت زيدا يوم الجمعة ويوم السبت"، أما إذا قيدته بشيء آخر، فقد ترك ذلك الظاهر لهذا النص، ألا تراك تقول: "ضربت زيدا يوم الجمعة وعمرا يوم السبت"، فكذلك هذا، وهو موضع يحتاج لتأمل.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما "فبشرناها بإسحاق": فـ "يعقوب" ليس مجرورا عطفا على "إسحاق"، بل منصوبا بإضمار فعل؛ أي: ووهبنا لها يعقوب، ويدل عليه قراءة الرفع، فإنها مؤذنة بانقطاعه من البشارة به، كيف وقد تقدم أن هذا القائل يقول: إنه متى كان المعطوف عليه مجرورا أعيد مع المعطوف الجار. وأما أن تؤدوا الأمانات ، فلا دلالة فيها أيضا؛ لأن "إذا" ظرف لا بدل له من عامل، وعامله: إما "أن تحكموا" وهو الظاهر من حيث المعنى، وإما "يأمركم"، فالأول ممتنع وإن كان المعنى عليه؛ لأن ما في حيز الموصول لا يتقدم عليه عند [ ص: 12 ] البصريين، وأما الكوفيون فيجيزون ذلك، ومنه الآية عندهم، واستدلوا بقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      4596 - كان جزائي بالعصا أن أجلدا



                                                                                                                                                                                                                                      وقد جاء ذلك في المفعول الصريح في قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1597 - ... ... ... ...     وشفاء غيك خابرا أن تسألي



                                                                                                                                                                                                                                      فكيف بالظرف وشبهه ؟ والثاني ممتنع أيضا؛ لأن الأمر ليس واقعا وقت الحكم، كذا قاله الشيخ، وفيه نظر، وإذا بطل هذان، فالعامل فيه مقدر يفسره ما بعده تقديره: وأن تحكموا إذا حكمتم، و "أن تحكموا" الأخيرة دالة على الأولى.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: بالعدل يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بـ "تحكموا"، فتكون الباء للتعدية. والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل "تحكموا"، فتكون الباء للمصاحبة؛ أي: ملتبسين بالعدل مصاحبين له، والمعنيان متلازمان.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: إن الله نعما يعظكم به قد تقدم الكلام على "ما" المتصلة بـ "نعم" و "بئس"، وما ذكر الناس فيها فعليك بمراجعته. إلا أن ابن عطية [ ص: 13 ] نقل هنا نقلا لا يبعد من وهم، فلا بد من ذكره، قال: و "ما" المردفة على "نعم" إنما هي المهيئة لاتصال الفعل بها، كما هي في "ربما"، و "مما" في قوله: "وكان رسول الله عليه السلام مما يحرك شفتيه"، وكقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1598 - وإنا لمما نضرب الكبش ضربة     على رأسه تلقي اللسان من الفم



                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذا هي بمنزلة "ربما"، وهي لها مخالفة في المعنى؛ لأن "ربما" للتقليل و "مما" للتكثير، ومع أن "ما" موطئة فهي بمعنى: الذي، وما وطأت إلا وهي اسم، ولكن القصد إنما هو لما يليها من المعنى الذي في الفعل، قال الشيخ: وهذا متهافت؛ لأنه من حيث جعلها موطئة مهيئة لا تكون اسما، ومن حيث جعلها بمعنى "الذي" يلزم أن تكون اسما فتدافعا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية