الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 75 ) قوله تعالى: وما لكم لا تقاتلون : هذا استفهام يراد به التحريض والأمر بالجهاد. و "ما" مبتدأ، و "لكم" خبره؛ أي: أي شيء استقر لكم. وجملة قوله: "لا تقاتلون" فيها وجهان، أظهرهما: أنها في محل نصب على الحال؛ أي: ما لكم غير مقاتلين، أنكر عليهم أن يكونوا على غير هذه الحالة، وقد صرح بالحال بعد هذا التركيب في قوله: فما لهم عن التذكرة معرضين ، وقالوا في مثل هذه الحال: إنها لازمة؛ لأن الكلام يتم دونها، وفيه نظر. والعامل في هذه الحال الاستقرار المقدر، كقولك: ما لك [ ص: 37 ] ضاحكا ؟ والوجه الثاني: أن الأصل: "وما لكم في ألا تقاتلوا"، فحذفت "في" فبقي "أن لا تقاتلوا"، فجرى فيها الخلاف المشهور، ثم حذفت "أن" الناصبة فارتفع الفعل بعدها كقولهم: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه"، وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1611 - ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      في إحدى الروايتين، وهذا يؤيد كون الحال ليس بلازمة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "والمستضعفين" فيه ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه مجرور عطفا على اسم الله تعالى؛ أي: وفي سبيل المستضعفين. والثاني: - وإليه ذهب الزجاج والمبرد - أن يكون مجرورا عطفا على نفس "سبيل". قال أبو البقاء - بعد أن حكاه عن المبرد وحده -: وليس بشيء، كأنه لم يظهر لأبي البقاء وجه ذلك، ووجهه أن تقديره: وفي خلاص المستضعفين. والثالث - وإليه ذهب الزمخشري -: أن يكون منصوبا على الاختصاص، تقديره: وأخص من سبيل الله خلاص المستضعفين؛ لأن سبيل الله عام في كل خير، وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخيور. والجمهور على "والمستضعفين" بواو العطف. وقرأ ابن شهاب : "في سبيل الله المستضعفين" وفيها تخريجان، أحدهما: أن يكون حرف العطف مقدرا كقولهم: أكلت لحما تمرا سمكا. والثاني: أن يكون بدلا من "سبيل الله"؛ أي: في سبيل الله سبيل المستضعفين؛ لأن سبيلهم سبيل الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "من الرجال" فيه وجهان، أحدهما: أنه حال من المستضعفين. [ ص: 38 ] والثاني: أن "من" لبيان الجنس. و "الولدان" قيل: جمع وليد، وقيل: جمع ولد، كورل وورلان. والمراد بهم: الصبيان، وقيل: العبيد والإماء، يقال للعبد: وليد، وللأمة: وليدة، فغلب المذكر على المؤنث لاندارجه فيه. و "الذين يقولون" فيه وجهان، أحدهما: أن يكون مجرورا على أنه صفة: إما للمستضعفين وإما للرجال ومن بعدهم، وغلب المذكر على المؤنث. وقال أبو البقاء: "الذين يقولون" في موضع جر صفة لمن عقل من المذكورين، كأنه توهم أن الولدان [ هم ] الصبيان، والصبيان لا يعقلون، فجعله نعتا لمن عقل من المذكورين، وهم الرجال والنساء دون الولدان؛ لأن جمع السلامة في المذكر يشترط فيه العقل، و "الذين" جار مجراه، وهذه غفلة؛ لأن مراد النحويين بالعاقل ما كان من جنس العقلاء وإن كان مسلوب العقل، ويدل عليه قوله تعالى: أو الطفل الذين لم يظهروا ، فالمراد هنا بالطفل: الصبيان الصغار، ومع ذلك وصفهم بالذين. والثاني: أن يكون منصوبا على الاختصاص.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: الظالم أهلها : "الظالم" صفة للقرية، و "أهلها" مرفوع به على الفاعلية. و "أل" في "الظالم" موصولة بمعنى: التي؛ أي: التي ظلم أهلها. فالظلم جار على القرية لفظا وهو لما بعدها معنى، ومثله: مررت برجل حسن غلامه. قال الزمخشري: فإن قلت: لم ذكر "الظالم" وموصوفه مؤنث ؟ قلت: هو وصف للقرية إلا أنه مستند إلى أهلها، فأعطي إعراب "القرية"؛ لأنه صفتها وذكر لإسناده إلى الأهل، كما تقول: من هذه القرية التي ظلم أهلها ؟ ولو أنث فقيل: "الظالمة أهلها" لجاز، لا لتأنيث الموصوف، بل لأن [ ص: 39 ] الأهل يذكر ويؤنث. فإن قلت: هل يجوز: من هذه القرية الظالمين أهلها ؟ قلت: نعم، كما [ تقول ]: التي ظلموا أهلها على لغة "أكلوني البراغيث"، ومنه: وأسروا النجوى الذين ظلموا . انتهى. وهذه قاعدة كلية: أن الصفة إذا جرت على غير من هي له، سواء كانت خبرا أم نعتا أم حالا، ينعت ما قبلها في اثنين من خمسة: واحد من ألقاب الإعراب، وواحد من التنكير والتعريف، وأما بالنسبة إلى التذكير والتأنيث والإفراد وضديه، فيحسب المرفوع بها كالفعل، وقد تقدم تحقيق ذلك غير مرة. ويجب أيضا إبراز الضمير منها مطلقا - أعني سواء ألبس أم لم يلبس - وأما إذا كان المرفوع بها اسما ظاهرا، فلا حاجة إلى رفعها الضمير، إلا أنه لا بد من راجع يرجع إلى الاسم الموصوف بها لفظا كهذه الآية. وقد أوضحت ذلك وبينته في هذا الكتاب وفي شرحي لـ" لتسهيل "، وهذا بخلاف الفعل إذا وصف به، أو أخبر به، أو وقع حالا لشيء لفظا وهو لغيره معنى، فإن الضمير لا يبرز منه بل يستتر، نحو: زيد هند يضربها، وهند زيد تضربه، من غير ضمير بارز لقوة الفعل وضعف الاسم في العمل، وسواء لم يلبس - كما تقدم تمثيله - أو ألبس، نحو: زيد عمرو يضربه، إذا قصدت أن زيدا هو الضارب لعمرو، هذا مقتضى مذهب البصريين، نص عليه مكي وغيره، إلا أنه قال قبل ذلك: إلا أن اسم الفاعل إذا كان خبرا، أو صفة، أو حالا لغير من هو له، لم يستتر فيه ضمير ولا بد من إظهاره، وكذلك إن عطف على غير من هو له. قلت: هذه الزيادة لم يذكرها النحويون وتمثيلها عسر. وأما ابن مالك فإنه سوى بين الفعل والوصف، يعني: [ ص: 40 ] إن ألبس وجب الإبراز حتى في الفعل، نحو: "زيد عمرو يضربه هو"، وإن لم يلبس جاز، نحو: "زيد هند يضربها"، وهذا مقتضى مذهب الكوفيين، فإنهم عللوا باللبس، وفي الجملة ففي المسألة خلاف.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية