الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. ( 54 ) قوله تعالى: من يرتد "من" شرطية فقط لظهور أثرها، وقوله تعالى: "فسوف" جوابها، وهي مبتدأة، وفي خبرها الخلاف المشهور، وبظاهره يتمسك من لا يشترط عود ضمير على اسم الشرط من جملة الجواب، ومن التزم ذلك قدر ضميرا محذوفا، تقديره: فسوف يأتي الله بقوم غيرهم، فـ "هم" في "غيرهم" يعود على "من" على معناها. وقرأ ابن عامر ونافع: "يرتدد" بدالين. قال الزمخشري: وهي في الإمام - يعني: رسم المصحف - كذلك، ولم يبين ذلك، ونقل غيره أن كل قارئ وافق مصحفه، فإنها في مصاحف الشام والمدينة: "يرتدد" بدالين، وفي الباقية: "يرتد"، وقد تقدم أن الإدغام لغة تميم، والإظهار لغة الحجاز، وأن [ ص: 307 ] وجه الإظهار سكون الثاني جزما أو وقفا، ولا يدغم إلا في متحرك، وأن وجه الإدغام تحريك هذا الساكن في بعض الأحوال، نحو: ردا، ردوا، ردي، ولم يردا، ولم يردوا، واردد القوم، ثم حمل "لم يرد، ورد" على ذلك، فكأن التميميين اعتبروا هذه الحركة العارضة، والحجازيين لم يعتبروها، و "منكم" في محل نصب على الحال من فاعل "يرتد"، و "عن دينه" متعلق بـ "يرتد".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: "يحبهم" في محل جر؛ لأنها صفة لـ "قوم"، "ويحبونه" فيه وجهان، أظهرهما: أنه معطوف على ما قبله، فيكون في محل جر أيضا، فوصفهم بصفتين: وصفهم بكونه تعالى يحبهم، وبكونهم يحبونه. والثاني أجازه أبو البقاء: أن يكون في محل نصب على الحال من الضمير المنصوب في "يحبهم"، قال: تقديره: وهم يحبونه. قلت: وإنما قدر أبو البقاء لفظة "هم"؛ ليخرج بذلك من إشكال، وهو أن المضارع المثبت متى وقع حالا وجب تجرده من الواو، نحو: قمت أضحك، ولا يجوز: وأضحك، وإن ورد شيء أول بما ذكره أبو البقاء، كقولهم: قمت وأصك عينه، وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1745 - ... ... ... ... نجوت وأرهنهم مالكا



                                                                                                                                                                                                                                      أي: وأنا أصك، وأنا أرهنهم، فتؤول الجملة إلى جملة اسمية، فيصح اقترانها بالواو، ولكن لا ضرورة في الآية الكريمة تدعو إلى ذلك حتى يرتكب، فهو قول مرجوح. وقدمت محبة الله تعالى على محبتهم لشرفها وسبقها، إذ محبته تعالى لهم عبارة عن إلهامهم فعل الطاعة وإثابته إياهم عليها.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين : هاتان صفتان أيضا لقوم، واستدل بعضهم على جواز تقديم الصفة غير الصريحة على الصفة [ ص: 308 ] الصريحة بهذه الآية، فإن قوله: "يحبهم" صفة، وهي غير صريحة؛ لأنها جملة مؤولة بمفرد، وقوله: "أذلة، أعزة" صفتان صريحتان؛ لأنهما مفردتان، وأما غيره من النحويين فيقول: متى اجتمعت صفة صريحة وأخرى مؤولة وجب تقديم الصريحة، إلا في ضرورة شعر، كقول امرئ القيس:


                                                                                                                                                                                                                                      1746 - وفرع يغشي المتن أسود فاحم     أثيث كقنو النخلة المتعثكل



                                                                                                                                                                                                                                      فقدم قوله: "يغشي" - وهو جملة - على "أسود" وما بعده وهن مفردات، وعند هذا القائل أنه يبدأ بالمفرد، ثم بالظرف أو عديله، ثم بالجملة، وعلى ذلك جاء قوله تعالى: وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ، وهذه الآية حجة عليه، وكذا قوله تعالى: وهذا كتاب أنزلناه مبارك . قال الشيخ: وفيها دليل على بطلان من يعتقد وجوب تقديم الوصف بالاسم على الوصف بالفعل إلا في ضرورة، ثم ذكر الآية الأخرى. قلت: وليس في هاتين الآيتين الكريمتين ما يرد قول هذا القائل. أما هذه الآية فيحتمل أن يكون قوله تعالى: "يحبهم ويحبونه" جملة اعتراض؛ لأن فيها تأكيدا وتسديدا للكلام، وجملة الاعتراض تقع بين الصفة وموصوفها، كقوله تعالى: وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ؛ فـ "عظيم" صفة لـ "قسم"، وقد فصل بينهما بقوله: " لو تعلمون " ، فكذلك فصل هنا بين قوله: "بقوم"، وبين صفتهم وهي: "أذلة، أعزة"، بقوله: "يحبهم ويحبونه"، فعلى هذا لا يكون لها محل من الإعراب. وأما وهذا كتاب [ ص: 309 ] أنزلناه مبارك ، فلا نسلم أن "مبارك" صفة، بل يجوز أن يكون خبرا بعد خبر، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو مبارك، ولو استدل على ذلك بآيتين غير هاتين لكان أقوى، وهما قوله تعالى: ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ، وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث ، فقدم الوصف بالجار على الوصف بالصريح، ويحتمل أن يقال: لا نسلم أن "من ربهم، ومن الرحمن" صفتان، لجواز أن يكونا حالين مقدمين من الضمير المستتر في "محدث"؛ أي: محدث إنزاله حال كونه من ربهم.

                                                                                                                                                                                                                                      و "أذلة" جمع ذليل بمعنى: متعطف، ولا يراد به الذليل الذي هو ضعيف خاضع مهان، ولا يجوز أن يكون جمع "ذلول"؛ لأن ذلولا يجمع على "ذلل" لا على "أذلة"، وإن كان كلام بعضهم يوهم ذلك. قال الزمخشري: ومن زعم أنه من الذل الذي هو نقيض الصعوبة، فقد غبي عنه أن ذلولا لا يجمع على أذلة. و "أذلة، وأعزة" جمعان لذليل وعزيز، وهما مثالا مبالغة، وعدى "أذلة" بـ "على"، وإن كان أصله أن يتعدى باللام لما ضمن من معنى الحنو والعطف، والمعنى: عاطفين على المؤمنين على وجه التذلل لهم والتواضع، ويجوز أن يكون المعنى: أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم، ونحوه قوله تعالى: أشداء على الكفار رحماء بينهم ، ذكر هذين الوجهين أبو القاسم الزمخشري. قال الشيخ: قيل: أو لأنه على حذف مضاف، التقدير: على فضلهم على المؤمنين، [ ص: 310 ] والمعنى: أنهم يذلون ويخضعون لمن فضلوا عليه مع شرفهم وعلو مكانتهم، وذكر آية الفتح. قلت: وهذا هو قول الزمخشري بعينه، إلا أن قوله: "على حذف مضاف" يوهم حذفه وإقامة المضاف إليه مقامه، وهنا حذف "على" الأولى، وحذف المضاف والمضاف إليه معا، ولا أدري ما حمله على ذلك ؟

                                                                                                                                                                                                                                      ووقع الوصف في جانب المحبة بالجملة الفعلية؛ لأن الفعل يدل على التجدد والحدوث، وهو مناسب، فإن محبتهم لله تعالى تجدد طاعاته وعبادته كل وقت، ومحبة الله إياهم تجدد ثوابه وإنعامه عليهم كل وقت. ووقع الوصف في جانب التواضع للمؤمنين والغلظة على الكافرين بالاسم الدال على المبالغة، دلالة على ثبوت ذلك واستقراره، وأنه عزيز فيهم، والاسم يدل على الثبوت والاستقرار، وقدم الوصف بالمحبة منهم ولهم على وصفهم بأذلة وأعزة؛ لأنهما ناشئتان عن المحبتين، وقدم وصفهم المتعلق بالمؤمنين على وصفهم المتعلق بالكافرين؛ لأنه آكد وألزم منه، ولشرف المؤمن أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      والجمهور على جر "أذلة، أعزة" على الوصف كما تقدم، قال الزمخشري: وقرئ: "أذلة، وأعزة" بالنصب على الحال. قلت: الذي قرأ: "أذلة" هو عبد الله بن مسعود، إلا أنه قرأ بدل "أعزة": "غلظاء على الكافرين"، وهو تفسير، وهي حال من "قوم"، وجاز ذلك، وإن كان "قوم" نكرة لقربه من المعرفة؛ إذ قد تخصص بالوصف.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: "يجاهدون" يحتمل ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكون صفة أخرى لـ "قوم"، ولذلك جاء بغير واو، كما جاءت الصفتان قبله بغيرها. الثاني: أنه في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في "أعزة"؛ أي: يعزون مجاهدين، قاله أبو البقاء، وعلى هذا فيجوز أن تكون حالا من الضمير في [ ص: 311 ] "أذلة"؛ أي: يتواضعون للمؤمنين حال كونهم مجاهدين؛ أي: لا يمنعهم الجهاد في سبيل الله من التواضع للمؤمنين، وحاليتها من ضمير "أعزة" أظهر من حاليتها مما ذكرت، ولذلك لم يسغ أن تجعل المسألة من التنازع. الثالث: أن يكون مستأنفا سيق للإخبار بأنهم يجاهدون في نصرة دين الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: "ولا يخافون" فيه أوجه، أحدها: أن يكون معطوفا على "يجاهدون"، فتجري فيه الأوجه السابقة فيما قبله. الثاني: أن تكون الواو للحال، وصاحب الحال فاعل "يجاهدون". قال الزمخشري: أي: يجاهدون وحالهم في المجاهدة غير حال المنافقين. وتبعه الشيخ ولم ينكر عليه، وفيه نظر؛ لأنهم نصوا على أن المضارع المنفي بـ "لا" أو "ما" كالمثبت، في أنه لا يجوز أن تباشره واو الحال، وهذا كما ترى مضارع منفي بـ "لا"، إلا أن يقال: إن ذلك الشرط غير مجمع عليه، لكن العلة التي منعوا لها مباشرة الواو للمضارع المثبت موجودة في المضارع المنفي بـ "لا" و "ما"، وهي أن المضارع المثبت بمنزلة الاسم الصريح، فإنك إذا قلت: جاء زيد لا يضحك، [ كان ] في قوة "ضاحكا"، و "ضاحكا" لا يجوز دخول الواو عليه، فكذلك ما أشبهه وهو في قوته، وهذه موجودة في المنفي، فإن قولك: جاء زيد لا يضحك، في قوة "غير ضاحك"، و "غير ضاحك" لا تدخل عليه الواو، إلا أن هذا يشكل بأنهم نصوا على أن المنفي بـ "لم" و "لما" يجوز فيه دخول الواو، مع أنه في قولك: قام زيد لم يضحك، بمنزلة "غير ضاحك"، ومن دخول الواو قوله تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم ونحوه. الثالث: أن تكون الواو للاستئناف، فيكون ما بعدها جملة مستأنفة مستقلة بالإخبار، [ ص: 312 ] وبهذا يحصل الفرق بين هذا الوجه، وبين الوجه الذي جوزت فيه أن تكون الواو عاطفة مع اعتقادنا أن "يجاهدون" مستأنف، وهو واضح.

                                                                                                                                                                                                                                      واللومة: المرة من اللوم، قال الزمخشري: وفيها وفي التنكير مبالغتان، كأنه قيل: لا يخافون شيئا قط من لوم أحد من اللوام. و "لومة" مصدر مضاف لفاعله في المعنى، فإن قيل: هل يجوز أن يكون مفعوله محذوفا؛ أي: لا يخافون لومة لائم إياهم ؟ فالجواب: أن ذلك لا يجوز عند الجمهور؛ لأن المصدر المحدود بتاء التأنيث لا يعمل، فلو كان مبنيا على التاء عمل، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1747 - فلولا رجاء النصر منك ورهبة     عقابك قد كانوا لنا بالموارد



                                                                                                                                                                                                                                      فأعمل "رهبة"؛ لأنه مبني على التاء، ولا يجوز أن يعمل المحدود بالتاء إلا في قليل من كلامهم، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1748 - يحايي به الجلد الذي هو حازم     بضربة كفيه الملا وهو راكب



                                                                                                                                                                                                                                      يصف رجلا سقى رجلا ماء، فأحياه به وتيمم بالتراب، والملا: التراب، فنصب "الملا" بـ "ضربة"، وهو مصدر محدود بالتاء. وأصل لائم: لاوم؛ لأنه من اللوم، فاعل كقائم.

                                                                                                                                                                                                                                      و "ذلك" في المشار إليه به ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه جميع ما تقدم من الأوصاف التي وصف بها القوم من المحبة، والذلة، والعزة، والمجاهدة في سبيل [ ص: 313 ] الله، وانتفاء خوف اللائمة من كل أحد، واسم الإشارة يسوغ فيه ذلك، أعني: أنه يقع بلفظ الإفراد مشارا به لأكثر من واحد، وقد تقدم تحقيقه في قوله تعالى: عوان بين ذلك . والثاني: أنه مشار به إلى حب الله لهم وحبهم له. والثالث: أنه مشار به إلى قوله: "أذلة"؛ أي: لين الجانب وترك الترفع، وفي هذين تخصيص غير واضح، وكأن الحامل على ذلك مجيء اسم الإشارة مفردا. و "ذلك" مبتدأ، و "فضل الله" خبره، و "يؤتيه" يحتمل ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه خبر ثاني، والثاني: أنه مستأنف، والثالث: أنه في محل نصب على الحال، كقوله. وهذا بعلي شيخا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية